نجيب نصر الله
لعل أكثر ما هو مقلق في راهن البلد، أن الصدى الذي يتردّد هذه الأيام، من جنبات معينة من البيت اللبناني، ازدادت درجة وضوحه، وبات أقوى، وأعلى من الصوت الأصلي نفسه، ذاك الداعي الى نزع سلاح المقاومة، أو فرض الحصار المشدّد على كل بوابات ومنافذ الاتصال اللبناني بالعالم الخارجي.
الموافقة الضمنية، أو لنقل عدم الممانعة «اللبنانية»، لقرار إخضاع الطائرات اللبنانية في ذهابها وإيابها، من وإلى بيروت، وإلزامها وجوب المرور في العاصمة الأردنية، عمّان، وإخضاعها للتفتيش الأمني الدقيق، وربما السياسي الأدق، والتثبّت من هويات القادمين، ومقارنتها بلوائح الأمن الاسرائيلي، لا يقول جديداً في ما خصّ القصور الحكومي المتعمّد طوال فترة العدوان المباشر، وربّما كان الجديد الوحيد هو اكتمال المؤشرات التأكيدية لواقع أن الخطة الأصلية، التي كانت الحرب التدميرية الأخيرة أحد مفاصلها، لن تتوقف عند الحدود النظرية الواهية التي رسمها القرار 1701. القراءة اللبنانية للقرار، المعبّر عنها بالتصريحات اليومية الصادرة عن أقطاب ما يسمى 14 آذار، تذهب الى أبعد مما يذهب إليه التفسير الإسرائيلي أو الأميركي. فالطموح الاسرائيلي صار مقصوراً على مطلب إبعاد مقاتلي حزب الله الى ما وراء نهر الليطاني، فيما الرغبة اللبنانية الضمنية هي القضاء عليه، والحديث عن دور الدولة ترجمة غبية لهذه الرغبة.
هدف القرار الدولي 1701 الأوحد ينحصر في تنظيم الحرب الاسرائيلية وتوفير استمرارها، حتى الوصول الى تحقيق ما عجز الجيش الاسرائيلي عنه. كل تفسير يجانب هذه الحقيقة لا معنى له. وإلا فما معنى صمت «الأمم المتحدة» عن الخرق الاسرائيلي الواضح للقرار، من خلال عملية الإنزال الأخيرة في البقاع، أو تجاهل استمرار الحصار على لبنان.بالترافق مع علو الصدى وضجيجه غير الآبه بما قد يجرّه على البلد من احتمالات التبديد التام والنهائي لمقوّمات أو عناصر الوجود الباقية، نجد من يتطوّع للمشاركة في حفل التخفيف من المأزق الاسرائيلي ــ الأميركي ــ العربي الذي اصطنعه قرار الحرب نفسه.
اللافت في الأمر أن التطوّع المجاني هذا يتوازى مع استمرار بل تصاعد درجات التضامن اللفظي مع المنكوبين الذين دُمّرت منازلهم أو فقدوا عائلاتهم. وهو ما تعبّر عنه المشاهد التلفزيونية لتزاحم الوفود الجرّارة، التي تمثل قوى لم تخف انحيازها السياسي الى جانب العدوان، للوصول الى أحياء الضاحية والوقوف على دمارها.
الغرف عينها التي تعيد فبركة الصوت الأصلي وإخراجه في شكل صدى أقوى وأشد تأثيراً، والتي لا يسعها انتظار دفن الضحايا أو رفع الركام أو تضميد الجراح، تسارع اليوم، عبر اللجان الأمنية والإغاثية المرتجلة، الى التعويض عن خسران رهان الحرب، التي شاركت في السمسرة لها، وإلى محاولة الاستفادة من فرصة الإعمار القريب وحجز الحصص المباشرة.
إبعاد الدولة المتعمّد عن وظيفتها الإعمارية ربما يُراد منه فتح الباب أمام التجار والسماسرة أنفسهم الذين سبق لهم تولّي «الإعمار» في مطالع تسعينيات القرن الماضي.
الخلاصة أن الصوت الذي يدوّي اليوم في الأرجاء اللبنانية ليس إلا رجع صدى للصوت الأصلي نفسه، ما يوجب معاملة الصدى بالحزم نفسه الذي عومل به الصوت الأصلي.