بيسان طييحمل لبنانيون لقب “مثقف” ويصرّون على هذا اللقب الذي يميزهم عن العامة “الببغائيين”.أصحاب لقب “مثقف” يحملونه كما يحمل البعض شارة تُعرّف بالشركة أو الجمعية التي ينتمي إليها. إنهم بالطبع لا يشبهون “المثقف العضوي” الذي تحدث عنه غرامشي، بل هم صورة مناقضة له، مثقفون يستاؤون ويشمئزون من الجماهير الجاهلة المنقادة وراء زعمائها. يزيد اشمئزازهم إذا ما كان هؤلاء الزعماء يحاربون اسرائيل، فأصحاب لقب “مثقف” وحاملو الشارة خائفون على الحضارة والعلمانية، وترعبهم حال التطرف الديني فيترفعون عنها ويوغلون في ابتعادهم حتى أرصفة المقاهي. حول طاولاتها ينأون بأنفسهم عن الصراعات التي جُر البلد إليها.
في الأحاديث التي تدور حول طاولات المقاهي وما يكتبه هؤلاء في مقالاتهم أو ما يتلونه عبر التلفزيونات على مسامع “العامة” التي لا تسمعهم، يكرر أصاحب اللقب أنه ليس باستطاعتهم أن يكونوا كالجماهير المنقادة كما القطعان (أوَ ليسوا مبدعين لهم ملكات خاصة لا يتمتع بها القطعان)، فهم “مثقفون” و“أصحاب نظريات ورؤى نقدية وتحليلية” والأهمّ من ذلك كله أنهم مبدعون ولا يجدون مكاناً أو فرصة لإبراز إبداعهم، وربما تحول ظروف الحرب “التي جرّنا إليها المتطرفون” دون أن يتفرغ أصحاب لقب “مثقف” للإبداع كما يقولون ويرددون مشدّدين على كلمة “مبدع” وكل مشتقّاتها.
في الجهة المقابلة ثمة شبان عادوا للتوّ من الجبهة الجنوبية، أحرقت الشمس جباههم وعلى أكتافهم حفرت البنادق آثارها (وهي علامات لا تحلو لأصحاب اللقب وصاحباته إلاّ حين تأتي في مضمون جنسي مثير)، سطّروا نصراً انحنت له “الجماهير” العربية ومثقفوها “الغرامشيون”، واعترف به الاسرائيليون.
هؤلاء المقاومون “العائدون إلى الحياة” كما يقولون، يروون انتصارهم بكلمات قليلة وبتواضع مخجل وحقيقي، هم خرّيجو جامعات وحملة شهادات ماجستير ودكاترة، لكنهم لم يحملوا لقب “مثقف” ولا هم ساعون وراء أي لقب. أنهوا القتال واستأنفوا حياتهم من حيث توقفت، يقولون إن العدو كان جباناً ولا يقولون إنهم أبطال. يقولون إنهم تألموا وبكوا ولا يقولون إن مخطاطاتهم الحربية كانت متميزة. يقولون إنهم حلموا بأطفالهم (لم يحلموا بزعيم) ولا يقولون إنهم آلات تدمير لا قلب لها ولا عاطفة. يدركون أنهم انتصروا لكنهم يرددون أمام من يسألهم، أن النصر يأتي به إنسان عادي مؤمن بعدالة قضيته، ولا يزال يتذكر كل الآلام التي سبّبها الاحتلال الاسرائيلي لأهالي قرى الجنوب والبقاع الغربي.
لا يطلّ المقاومون ليل نهار من شاشات التلفزة ليتحدثوا عن بطولاتهم، لا يقولون شيئاً إذا لم يُسألوا، وإذا سُئلوا فلا يأتون على ذكر الـ“إبداع” ولا كل ما يشتق من هذه الكلمة، مع أنهم أبدعوا في القتال باعتراف الجيش الذي واجههم. وفي هذا الإطار قد يجد بعض أصحاب لقب “مثقف” بعض الوقت لقراءة المقابلات التي أجرتها صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية مع جنود من وحدة غولاني، قالوا فيها الكثير عن “إبداع المقاومين اللبنانيين”.
أزمة المثقف في العالم العربي عميقة، وهي تحتاج فعلاً إلى حلول جذرية، لكن ألا يؤدّي أصحاب اللقب دوراً في تعميق الهوة بن المثقف الحقيقي والجمهور يفاقم الأزمة؟ ثمّ ألا يبطن “القرف” من الجمهور في حقيقة الأمر “قرفاً” من النفس؟
اختلطت المعايير، وصرنا حقاً في حاجة إلى تحديدها من جديد، هل صار الإبداع لازمة من خرج على آراء “الجماهير” أياً كان ما يقدمه وما ينتجه؟ وختاماً ألا يحتاج الإبداع إلى بعض التواضع ليكون فعلاً حقيقياً؟