ساسين عسّاف
منذ صدور القرار 1559 والجدل بشأنه دائر بين القوى السياسية في لبنان وجميعها منقسم الى وجهتي نظر:
ــ واحدة تقول إن هذا القرار هو، في بعض بنوده، إعادة لما هو وارد في وثيقة الوفاق الوطني اللبناني وخصوصاً لجهة نزع سلاح الميليشيات اللبنانية غير اللبنانية ولجهة العودة الى اتفاق الهدنة لعام 1949 ونشر الجيش اللبناني في منطقة الجنوب حتى الحدود.
ــ واحدة أخرى تقول إن القرار 1559 يتجاوز وثيقة الوفاق الوطني اللبناني الى ما يناقض ما هو وارد فيها من تكريس حق لبنان في تحرير أرضه والدفاع عن شعبه والسعي الى تطبيق القرار 425 بالوسائل كافة بما فيها اللجوء الى المقاومة المسلحة، وعليه فالمقاومة ليست ميليشيا وتالياً هي غير معنية بالقرار 1559، فضلاً عن أن بيان حكومة الرئيس السنيورة التي يشارك فيها “حزب الله” قد أقرّ شرعية الفعل المقاومهذا وبعد انسحاب جيش الاحتلال من لبنان في أيار 2000 بفعل الهزيمة التي ألحقتها به المقاومة، كان قد احتجم الصراع بين هؤلاء وأولئك حول مزارع شبعا بين قائل بلبنانيتها في المطلق وبضرورة استمرار المقاومة المسلحة لتحريرها، وقائل بسوريتها في المطلق وبضرورة وقف أعمال المقاومة ونزع سلاحها، بادّعاء أن القرار 425 قد نُفّذ وتالياً لبنان غير معني بها... وبين هذا وذاك خرج من يقول: “إذا لم تكن المزارع سورية فعلى الحكومتين السورية واللبنانية أن يرسما الحدود ويوقّعا خرائط تثبّت لبنانيتها ثم يودعاها دوائر الأمم المتحدة ذات الاختصاص ليبدأ من هنا كلام آخر على المقاومة...
في سياق هذا النقاش المحتدم بين القوى السياسية اللبنانية الموزعة على محوريْ قوى إقليمية ودولية، أحدهما يبدأ في كابول وينتهي في غزة مروراً بطهران وبغداد ودمشق وجنوب لبنان، والآخر يبدأ في واشنطن وينتهي في تل أبيب مروراً بلندن وباريس وعواصم أوروبية وعربية تابعة، عُقدت طاولة حوار لبناني وأُدرج في جدول أعمالها بند بعنوان استراتيجيا الدفاع عن لبنان.
العنوان الذي كانت تعمل له فئات لبنانية ولا تزال، هو نزع سلاح المقاومة وخصوصاً بعد الحرب الأميركية/الاسرائيلية على لبنان في الثاني عشر من تموز 2006، وفي ضوء الجدل السابق على هذه الحرب واللاحق لها نتوقف عند الإشكاليات الآتية:
الإشكالية الأولى: سلاح المقاومة وأفهوم سيادة الدولة:
الخلاف حول سلاح المقاومة وأفهوم سيادة الدولة هو بين وجهتيْ نظر:
ــ سلاح المقاومة إضعاف للدولة من حيث هي مشروع بناء في اتجاه الداخل (دولة مهادنة)..
ــ سلاح المقاومة تقوية للدولة من حيث هي مشروع بناء مقاوم في اتجاه العدو (دولة مقاومة)..
الخلاف بين هاتين النظرتين الى سلاح المقاومة وسيادة الدولة يقوده منطقان متناقضان في أفهوم الدولة الواجب قيامها:
هل هي دولة مسالمة للكيان الصهيوني ومستسلمة لعدوانه بداعي أنه الأقوى أو هي دولة مواجهة لهذا الكيان ومقاومة لعدوانه؟
هل هي دولة إذعان لمنطق تحرير الأرض بالوسائل الديبلوماسية، وردع العدوان باللجوء الى الحمايات الأجنبية والشكاوى الى مجلس الأمن واستدرار عطف الدولة العظمى أو هي دولة تحرير الأرض وردع العدوان بالتلاحم بين سلاح الجيش وسلاح المقاومة؟
الإجابة تأتي كذلك من نظرة البعض الى المقاومة إذ هي في يقينه امتداد سوري/إيراني الى داخل القرار اللبناني. وهذا ما له في رأي هؤلاء تأثيره السلبي على سيادة الدولة اللبنانية وتحديد استراتيجيا الدفاع التي تراها مناسبة لحماية مجتمع بعض قواه السياسية يرفض الارتهان لإرادة المحور السوري/الإيراني.. هذا وسيد المقاومة أعلن غير مرة أنه حليف استراتيجي لهذا المحور.. فكيف تكون المقاومة جزءاً من استراتيجيا دفاعية للبنان وهي في حلف استراتيجي مع سوريا وإيران؟!
الردّ على هذا البعض هو الآتي: التحالف الاستراتيجي القائم بين المقاومة وسوريا وإيران هو الردّ الطبيعي على التحالف القائم بين فريق من اللبنانيين والإدارة الأميركية والحكومة الاسرائيلية المستفيدة موضوعياً من هذا التحالف القائم على قاعدة تنفيذ القرار 1559.. هذا والتحالف بين المقاومة وسوريا وإيران لا ينفي عن المقاومة لبنانية تكوينها وهويتها وفعلها وليس في الامر أي عيب أو انتقاص من سيادة ما دامت المقاومة حالة لبنانية دفاعية وحالة ممانعة للمشروع الأميركي الصهيوني على امتداد الوطن العربي والمنطقة برمّتها، ومن شأن أفعالها في مقاومة العدوان الصهيوني على لبنان تقوية الدولة وتعزيز سيادتها..
الإشكالية الثانية: سلاح المقاومة والموقف من الكيان الصهيوني:
بين اللبنانيين من يعتقد بأن “اسرائيل” هي دولة جارة للبنان وساعية الى السلام معه لا أطماع لها فيه ولا أرض له واقعة تحت احتلالها وهي إن اعتدت فردّاً على اعتداءات تقع عليها انطلاقاً من لبنان!! وهؤلاء أنفسهم يعتقدون كذلك بأن “اسرائيل” هي دولة حضارية تلتزم المعاهدات والمواثيق والقوانين الدولية وتحترم قرارات الشرعية الدولية بدليل أنها نفّذت طوعاً القرار 425 ولم تخترق الخط الأزرق!!
وبين اللبنانيين من يعتقد بأن الكيان الصهيوني هو كيان إرهابي توسّعي استيطاني يشكل عدواناً مستمراً على لبنان، يحتل أرضه، والمجتمع الدولي غير قادر على ردعه ومعاقبته. إنه كيان استثنائي يحظى بحماية دولية دائمة تجعله فوق المعاهدات والمواثيق والقوانين الدولية.
لذلك نقول:
إن الخلاف بين اللبنانيين يتحرك على خلفية الموقف من “اسرائيل” حيث رأي البعض هو (قوة لبنان في ضعفه)، ومن “الكيان الصهيوني” حيث رأي البعض الآخر هو (قوة لبنان في قوته)، وتالياً يتحرك البعض على فهم طبيعة “التعامل معها”، والبعض الآخر على فهم طبيعة “الصراع معه”، وعلى تحديد موقع لبنان في مجال “السلام معها”، وعلى تحديد موقع لبنان في مجال “الحرب معه”..
السؤال المركزي المطروح في كل خلاف بين اللبنانيين على سلاح المقاومة هو:
هل لبنان في المنظور الصهيوني مستهدف أو لا؟
هل لبنان في الصراع العربي/الصهيوني معنيّ أم لا؟
بعض اللبنانيين منخرط فعلاً في مشروع “السلم الاسرائيلي” وهو مؤمن فعلاً بأن اسرائيل تسعى الى السلام مع لبنان! وشرطه قيام الدولة، بحسب رأيه! يكفي أن تقوم الدولة اللبنانية القوية وتبسط سلطتها على منطقة الحدود مع اسرائيل كي تلتزم اسرائيل اتفاقية الهدنة!!.. لذلك فإن هذا البعض يرى الى سلاح المقاومة من زاوية بناء الدولة كشرط لازم لالتزام اسرائيل اتفاقية الهدنة!!.. منطق سلاح المقاومة في رأي هؤلاء يناقض منطق بناء الدولة.. ازدواجية السلاح تحول دون قيام دولة فعلية قادرة على حماية الوطن عبر تطبيقها القرارات الدولية وخصوصاً القرار 1559..
الإشكالية الثالثة: سلاح المقاومة والقرار 1559:
الوطن تحميه مؤسسات الدولة التي تلتقي فيها جميع الطوائف والفئات، وأي موقف يتجاهل حق سائر الطوائف والفئات في تقرير دور سلاح المقاومة وضرورة بقائه أو عدمها وكيفية استخدامه ومتى وأين، يكون معبّراً عن إرادة تفرّد في تقرير مصير البلد بوضع الآخرين جميعاً أمام الأمر الواقع.. ليس من شأن طائفة أو فئة أن تتصرّف بمعزل عن جميع الطوائف والفئات “شاءت هذه أو أبت”! صيغة لبنان لا تحتمل خللاً في التوازن الوطني تحدثه امتيازات لطائفة معينة أو لفئة معينة.. قاعدة هذه الصيغة هي المساواة في الحقوق والواجبات على صعيد الأفراد كما على صعيد الطوائف.. هذا كلام حق في المبدأ.. أما تداعياته وفق الشروط الموضوعية القائمة حالياً فسلبية جداً ليس فقط على مصير الصيغة بل على مصير الوطن.
من هذه الشروط تنفيذ القرار 1559 باعتباره، في رأي البعض، يوفّر السيادة للدولة اللبنانية ويضمن لها الاستقرار وخصوصاً في منطقة الجنوب لأنه ينص على نزع سلاح حزب الله ونزع السلاح الفلسطيني وكلاهما موجود بكثافة في هذه المنطقة.. والسؤال المطروح:
أوليس هذا القرار أفظع اعتداء أميركي على الصيغة إذ شكّل انقساماً هائلاً وحاداً بين اللبنانيين من دون أن يُنفّذ، فكيف يكون الأمر في حال تنفيذه؟! إنه قرار فتنة بين اللبنانيين من جهة وبين اللبنانيين والفلسطينيين من جهة أخرى.. إنه القرار الفعلي للتوطين.. التوطين هو أفظع اعتداء أميركي/صهيوني على الصيغة.. وعليه، أي موقف لا ينطلق من قاعدة رفض التوطين والعمل على منعه ومواجهة أي قرار دولي يقود إليه كالقرار 1559 هو إسقاط للصيغة وإنهاء للبنان.. لذلك، فالقاعدة الأولى للتفاهم بين اللبنانيين في رأينا تنطلق من الإقرار الفعلي والثابت بأن الدولة اللبنانية هي في حالة صراع وجودي مع الكيان الصهيوني، وبأن هدف هذا الكيان هو إلغاء لبنان الدولة والصيغة والميثاق والهوية والدور والكيان والديموغرافيا والتاريخ والجغرافيا.. (مقولة موشي أرينز: لبنان خطأ تاريخي وجغرافي وجب تصحيحه)..
لقد استبدّت بالبعض معكوسية الأفاهيم فبدت لهم “اسرائيل” حريصة على قيام الدولة اللبنانية، والمقاومة ليست حريصة على استقلال لبنان ولا على الديموقراطية في لبنان ولا على التوافق على قرار الحرب والسلم ولا على عودة الفلسطينيين الى أرضهم وعدم توطينهم في لبنان ولا على تنفيذ اتفاق الطائف بالعودة الى هدنة 1949، وذلك كله من خلال حرب إسرائيل التدميرية على لبنان وإبادة شعبه مدّعيةً إنقاذ الشعب اللبناني من هيمنة سورية/إيرانية عبر تصفية المقاومة وتصديق البعض لهذا الادعاء والرهان عليه وتهليله لانتصار صهيوني طالما ارتقبه وراهن عليه ليكون من نتائجه تطبيق القرار 1559!!..
هذا البعض الآكل على موائد كوندوليزا رايس والحامل لهدايا الأرز الى جون بولتون لا يجد في المقاومة سوى ميليشيا من ميليشيات الحرب يسري عليها ما سرى على سائر الميليشيات تطبيقاً لاتفاق الطائف الذي هو في رأيه النسخة الأصلية للقرار 1559!!..
الإشكالية الرابعة: سلاح المقاومة والصراع على السلطة:
المقاومة بعد انسحاب “جيش الدفاع الاسرائيلي” وبعد ترسيم الخط الأزرق أصبحت في نظر بعض اللبنانيين مشكلة داخلية وأصبح سلاحها غير شرعي وخطيراً على الوضع الداخلي وعلى الصيغة!!
هذه الرؤية لسلاح المقاومة تنطلق من حساب الربح والخسارة في الصراع على السلطة:
امتلاك فئة دون سائر الفئات للسلاح يولّد عدم توازن طائفي ومذهبي وسياسي. الوزن العسكري لهذه الفئة مضافاً الى وزنها السياسي والديموغرافي يخلّ بالتوازن والعلاقات بين الطوائف والمذاهب والفئات فتصبح متوترة ما يؤدي الى فتن داخلية!! والإخلال بالتوازن هو ضرب للقاعدة الأساسية التي تقوم عليها الصيغة؟
سلاح المقاومة في رأي هذا البعض يخلّف مشكلة داخلية بنيوية تهدد الصيغة بالسقوط وتجنح بها في اتجاه الفيدرالية.. هذا السلاح اقتضى إنشاء مربّعات أمنية محظور دخولها على الدولة. إنها مربعات أمن ذاتي مقفلة أمام الدولة وهذا ما يشكل حافزاً للآخرين كي يطالبوا باللامركزية الأمنية.. إن هذا البعض يوجّه هذا الاتهام ربما لتسويغ مشروعه القديم/الجديد، ذلك أن اللامركزية الأمنية هي الممر الإلزامي والأقرب الى الفيدرالية ونظام الكانتونات الذي شكل حلمه ورهانه منذ بدايات حربه على الدولة..
الرد على هذا البعض في مسألة اللامركزية الأمنية التي يمارسها حزب الله والتي في حال تثبيتها وشرعنتها تحدو إلى أن يتخوّف هؤلاء من فدرلة لبنان، هو أن رأس المقاومة منذ التحرير (الذي هو في رأيهم انسحاب طوعي) مروراً بالقرار 1559 وحتى الحرب الأميركية الصهيونية الأخيرة في 12 تموز على لبنان، مطلوب بالتقاطع المصلحي الموضوعي إن لم نقل بالتواطؤ بين حكومة الكيان ومجموعة رايس وبولتون الساعية الى السيطرة التامة على السلطة تحت شعار بناء الدولة القوية.. سلاح المقاومة باتت تنظر إليه تلك المجموعة عاملاً حاسماً في الصراع على السلطة مذ هجست بأن حزب الله لديه رغبة في توظيف انتصاره على العدو لتوسيع دائرة نفوذه في مواقع السلطة!! الصراع على السلطة في لبنان تقوده عصبيات طائفية ومذهبية. إن هذه العصبيات تمنع أصحابها من توفير الحماية القانونية والسياسية لسلاح المقاومة لا بل تحفز هؤلاء على العمل لإلغائها شأنها في ذلك شأن كل الميليشيات التي ألغيت بموجب وثيقة الوفاق الوطني.
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي وأستاذ في الجامعة اللبنانية