زياد سعيد
في غمرة الانفعال السياسي والشعبي الحادّ، الذي ساد البلد، إبان الحراك السياسي ضد الوجود العسكري السوري، اقتحمتنا المصطلحات الجديدة. بريق تلك المصطلحات جعلنا نفقد قدرة التدقيق في صحتها، أو حتى في مدى مطابقتها للواقع، فاندفعنا الى تداولها بيقين الواثق. «إنه زمن استعادة الدولة»، كانت هذه العبارة واحدة من أبرز وأهم ما قيل في وصف تلك المرحلة، التي يبدو أنها انقضت إلى غير رجعة. اليوم، وبالرغم من كل ما أصاب تلك المصطلحات والتعابير من تهافت وبطلان، ما نزال نجد من يردّدها من دون أدنى شعور بالمسؤولية. أقطاب الفريق السياسي «الأكثري» عينه الذي أطاح فرصة وقعنة تلك المصطلحات، مصرّ على تزيين الأسماع بما تهافت منها، وفي ظنّهم أنه باستعادة تداولها، سوف يعيد من تزخيم الدور الذي يبدو أنه يزداد ضعفاً، وخصوصاً أن الرهان الأخير على إمكانية الاستفادة من هزيمة «حزب الله» قد سقط. يرتفع اليوم منسوب الكلام عن الدولة، ليصل إلى ذرى لم يسبق له أن وصلها. إن شكل الكلام وتوقيته، والأهم نوعية القائلين به، وهم بالمناسبة حلف يمتد من وليد جنبلاط ليصل الى سمير جعجع، يكشف عن استسهال مهين للتضحيات التي دفعها البلد، ويدل على ثبات الوجهة الانتهازية التي تتحكم في مفاصل الخطاب الخاص بهذا الحلف، فالواقع يظهر أن أهداف الكلام لا تتطابق مع مضامينه. الافتراق بين الكلام والمعنى واحد من أعمدة هذا الخطاب، الذي لم يعدم الوسائل للقضاء على الدولة دوراً ووظيفة، وقد نجح في مسعاه طوال 15 عاماً.
كان لحفل الكلام المتداول اليوم عن وجوب استعادة الدولة، أن يمر هو الآخر مرور الكرام، إلا أن مناسبة قوله، التي يصادف أنها تأتي بعد عدوان إسرائيلي شامل، تجعل منه يحمل شبهة التعمية. إن التمزقات التي يعيشها البلد اليوم ترتبط بإصرار البعض على المضي في السياسات نفسها التي طالما مورست في الزمن السوري، وكلّفت البلاد ما لا طاقة لها عليه، وخصوصاً ان الممارسات السياسية التي ترتكب اليوم باسم استعادة الدولة، تشبه كثيراً تلك الممارسات التي طبعت مرحلة الوصاية السورية البغيضة. ميزة الاستعادة لخطاب الدولة أنه يستهدف جعل البلد يدور في فلك آخر غير فلكه العربي. الكلام «الدولتي» هو في جوهره، جزء من حملة الآلة الإعلامية الضخمة التي ما برحت تجهد للتأسيس لوعي مغاير، يقطع مع الواقع الحقيقي. إن دقة ما يعيشه البلد تتطلب من «الفريق اللبناني» الذي يتصدّر الواجهة أن يقلع عن تزيين الأوهام، أو اختلاق الأكاذيب.
إن الأسلوب الذي أعلى من شأن المخابرات على حساب العمل السياسي، يفرض التذكير بأن سيطرة الأمن على السياسة، شكّل العمود الفقري للمشروع السياسي والاقتصادي الذي انتحل صفة «الإعمار»، وكان الحامي للمشروع الذي أوقع بالبلد وجعله أسير مديونيته المجانية.الاستمرار في هذا النهج المتعامي عن التوصيف الدقيق للحال اللبنانية ربما ينبع من الأمانة لتقاليد خاصة في السياسة اللبنانية أرسيت مع وصول الرئيس الراحل رفيق الحريري، وهي اليوم مستمرة مع موظفيه الأكفياء جداً.