ميشال بشير *
أذكر من سنتين حضوري ندوة في الجامعة الأميركية في بيروت عن ضرورة أن تُعامل ضاحية بيروت الجنوبية جزءاً من العاصمة لا منطقةً مستقلةً عنها. ليلة الأحد ــ آخر ليلة من العدوان الاسرائيلي على لبنان ــ اتضح لي أن منطقة سوليدير ــ وسط العاصمة ــ انفصلت عن لبنان وباتت جمهورية مستقلة يحدّها خط أحمر!
منذ بداية العدوان الاسرائيلي على لبنان لاحظنا أنا وأصدقائي ردّة فعل غريبة ولكن متوقعة في الوقت نفسه في منطقة سوليدير التي سارعت المطاعم ومرائب السيارات فيها إلى الإقفال، وعزّزت التحصينات والمعابر الأمنية حول السراي الحكومي ومبنى الإسكوا وحتى خيمة الحرية. وفيما كان يتفاقم حجم النازحين في بيروت وتكتظّ المدارس والحدائق العامة بهم، بقيت الساحات الشاسعة في وسط البلد فارغة من أي نازح على رغم أنها أظهرت قدرتها على الاتساع لمئات الآلاف من المتظاهرين طوال العامين الماضيين. ومع وضوح تلكؤ الهيئة العليا للإغاثة في تلبية حاجات النازحين، تمنّينا لو ينزلون الى وسط المدينة ــ الذي يُفترض به أن يحتضن كل أهل لبنان ــ ويستخدمون ساحاته الشاسعة مأوىً لهم. ربما هكذا تضطر الحكومة اللبنانية إلى ألا تغفل النظر عمن يزورها مباشرة في جمهوريتها المستقلة. ولكن رؤية هذا الأمر يتحقق كانت أصعب من تمنّيه، ومعايشته ولو لليلة واحدة أشد ألماً من دغدغته خيالنا ونكتنا اليومية. ففي ليلة الأحد، الليلة الأخيرة من الحرب على لبنان، حينما تهيّأنا لنختم سهرتنا المعتادة بالقرب من نصب الوفاء للشهداء الذي جهّزه تجمّع هيئات المجتمع المدني «للحرية والحياة» في الوسطية التي تقع مباشرة تحت جسر فؤاد شهاب، انتبهنا لوجود عائلة من أب وأم وثلاثة أطفال يفترشون الأرض في تلك الوسطية.
وبعد التعارف اتضح لنا أنهم قد هربوا هذه الليلة من الضاحية الجنوبية بعد أن ألقت اسرائيل مناشير فوق منطقتهم تنذر أهاليها بضرورة إخلائها. اصطحب قسم منا الزوج لإحضار بعض الفرش والطعام من أحد مراكز الإغاثة لقضاء الليلة، بينما بقيت صديقتي مع الزوجة والأطفال. فمنى الزوجة ومدرّسة اللغة الفرنسية وعلم الاجتماع في المدرسة المهنية القريبة من بلدتها في الجنوب، تعاني الآن انهياراً عصبياً منذ بدء العدوان. فقد هربت العائلة من بلدة الشهابية في قضاء صور الى الضاحية الجنوبية وها هم الآن في العراء تفادياً لأن يكونوا ضحايا «فرق العملة» في «جنون» اسرائيل قبل الهدنة المرتقبة صباح الاثنين. وفي غضون نصف ساعة وصل الى الوسطية وللأسباب نفسها حوالى مئة نازح من الضاحية. وبدأنا نراقب بأعيننا ردة الفعل على اقتحام أهل الضاحية حدود وقدسية وتحصينات جمهورية سوليدير المستقلة. فبسرعة البرق تجمّع حول المكان عدد من أفراد الأمن الخاص الذين يرتدون ثياباً مدنية كالمخابرات، ولولا وجودنا لكان دار العراك بينهم وبين النازحين من شدة الاحتقان بين الطرفين، حتى إن أحد أفراد الأمن طلب عودة هؤلاء الى مدارسهم ولم يستوعب أنهم قد تركوا منازلهم للتوّ. وبدأنا أنا وأصدقائي نبحث عن إمكانيات الإيواء في هذه المنطقة. فحديقة السلام المواجهة للوسطية التي تغري، بهدوئها وبعدها عن الأضواء، بقضاء الليلة، باتت «مقفلة لأسباب خاصة» على رغم وجود العشرات فيها يومياً للاحتماء من حرّ الصيف وزحمة النازحين. ولدى اقتراحنا على الحراس استخدام جامع محمد الأمين ــ بيت الله ــ الذي بإمكانه إيواء المئات على سجاده المريح، صارحنا حراسه بأنه «لا يمكن استخدامه للمنامة فهو لم يستخدم بعد للصلاة». وضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري «مقفل» وهو لم يقفل يوماً. وقد بدا بعض حراس الأمن الخاص «عبداً مأموراً» لسلطتهم العليا ويحرص على عدم تخطّي النازحين الوسطية التي يستخدمونها لأن «سوليدير خط أحمر» كما قالوا لنا. إلا أن أحدهم لم يستطع ضبط إنسانيته واقترح «خيمة الحرية» مأوىً لليلة فخالفه في القرار من بدا أعلى رتبة منه.
تحت المراقبة المشددة ومقابل هذا التضييق على حركة العائلات التي اختارت وسط العاصمة ــ قلب لبنان ــ مأوى ولو لليلة واحدة، لم أستغرب تعليقات البعض من النازحين. فقد رفعت امرأة صوتها متخلية عن لبنانيتها، وقال لي شاب في العشرينيات من عمره إنّ أهالي بيروت لم يعيشوا الحرب مقارنة بما عاشه أهل الضاحية من القصف المباشر لأحيائهم. ولكن ما لفتني أكثر، وربما ما أجاب عن تساؤلي عمّا أخّر النازحين عن اللجوء الى وسط بيروت، هو توقّع بعضهم الاستقبال الذي لقيه في سوليدير وتفضيله البقاء محاصراً على بحص وسطيتهم على التفكير بالتوجّه الى سجاد أو هدوء الحديقة، وذلك اشمئزازاً من أي شفقة قد تصدر عن الجمهورية الشقيقة!
*كاتب لبناني