عبد الإله بلقزيز *
بدأت نتائج المنازلة العسكرية بين المقاومة اللبنانية والجيش الصهيوني تطلق مفاعيلها السياسية والاجتماعية والنفسية سريعاً داخل المجتمع الاسرائيلي. ولن يمر وقت طويل حتى تبدأ اتجاهات تطورها في البيان، وتأثيراتها العميقة في الاستقرار. لنطالع ما يبدو منها في الصورة الآن ــ ولمّا ينصرم أسبوعان على وقف العمليات الحربية ــ ولنستشرف في الأفق القادم ما سيئين له الأوان:
نقف، في مطالعتنا النتائج تلك، على نتيجتين رئيستين من نتائجها الآنية: فشل العدوان العسكري على لبنان وارتدادات ذلك الفشل على الطبقة السياسية والجبهة الداخلية في اسرائيل. المظهر الأول لفشل العدوان هو انكفاؤه العسكري الذي حمل عليه حملاً بسبب قوة التصدي القتالي للمقاومة في المعارك البرية وقوة ضرباتها الصاروخية للعمق العسكري والاقتصادي والسكاني الاسرائيلي، وما أحدثه ذلك كله من خسائر بشرية فادحة في صفوف جيش اسرائيل ومستوطنيها ومن خسائر مادية لم تتعوّد الدولة العبرية على تلقّي ما يناظرها في الحجم والكلفة. لكن وراء هذا المظهر الخارجي للفشل مظهراً ثانياً هو الأهم في تقدير درجته وحدته كفشل، أعني: سقوط أهداف العدوان. من النافل أن الحروب إنما تُخاض من أجل تحقيق أهداف سياسية: معلنة أو مضمرة. ولما كانت أهداف اسرائيل من العدوان عالية السقف منذ يومه الأول (عودة الأسيرين من دون شروط، تدمير البنية التحتية للمقاومة، نزع سلاح «حزب الله»)، فقد بدت حصيلة العدوان متواضعة، بل دون المستوى الرمزي. لم يعد الأسيران من دون قيد أو شرط، ولم يقع تدمير البنية العسكرية للمقاومة باعتراف جنرالات اسرائيل وبشهادة مئات الصواريخ التي انهالت على المستعمرات الاسرائيلية في الشمال الفلسطيني خلال الهزيع الأخير من الحرب، ولم يُنزع سلاح «حزب الله». فماذا حصدت اسرائيل من حربها، إذاً، غير الحصاد المرّ؟
ربّ قائل يقول إنها حصدت القرار 1701 الذي لا ينصف لبنان ومقاومته. هذا صحيح. لكنه لا يعطيها أسرى، ولا يدمر لها ما عجزت عن تدميره، ولا ينزع لها سلاحاً من «حزب الله». وها هم قادة اسرائيل أنفسهم يعضّون على كبريائهم الجريح وخيبتهم من أنفسهم وجندهم ويتحدثون عن حاجة اسرائيل الى التفاوض على أسراها، أي عما كان يمكن أن يحصل من دون حرب كما عرض عليهم زعيم المقاومة في اليوم الثاني عشر من تموز 2006: يوم الأسر والعدوان الاسرائيلي المضاد! ثم ها هو كوفي أنان ــ أمين عام المنظمة التي أصدرت القرار 1701 ـ يعلن بالفم الملآن أن سلاح «حزب الله» مسألة داخلية لبنانية، أي تبحث في الأطر الوطنية نفسها التي كانت تبحث فيها (= «هيئة الحوار الوطني اللبناني») قبل الثاني عشر من تموز 2006، أي أيضاً قبل أن تنقضّ اسرائيل على ذلك الحوار الوطني فتختطف جدول أعماله السياسي متذرّعة بالعجز عن تنفيذ القرار 1559 لكي تعود مدحورة الى حيث كانت، مع متغير «واحد» ــ ولكن كبير ــ هو أنها ورّطت نفسها وسكانها في حرب خاسرة لم «تنتصر» فيها على أحد ما خلا الأطفال والنساء والشيوخ والجسور والطرق والكهرباء والأسماك! ولقد كان لزلزال الفشل العسكري المدوّي ارتداداته في الداخل الاسرائيلي على نحو فوري: لجان تحقيق في الهزيمة وأسبابها، وجنود احتياط يتذمّرون ويتظاهرون، وعائلات جنود صرعى يحتجّون، وسجال سياسي أشبه ما يكون في حدّته وغلظة مفرداته بالحرب: بين الحكومة والمعارضة، بين اليمين و«اليسار»، بين السياسيين والعسكريين، داخل الحكومة وداخل المؤسسة العسكرية. وقبل هذا كله، وأثناءه وبعده، داخل الصحافة والرأي العام. الجميع ضد الجميع، وكلٌ يحمّل مسؤولية الهزيمة للآخر: الجنود يحمّلونها لقياداتهم المرتبكة في قراراتها والمحجمة عن تزويدهم بالعتاد الكافي. والجنرالات يحمّلونها للسياسيين والحكوميين الذين خفضوا موازنة الجيش وتردّدوا في دعم مخططاته الحربية، والحكومة تحمّلها للجيش والاستخبارات وفشلهما معاً في تقدير قوة «حزب الله» أو في اختراقه أمنياً. والمعارضة تحمّلها للحكومة التي أخذت المجتمع الاسرائيلي الى حرب لم تستطع إدارتها بكفاءة فغرّمت البلد ولوّثت سمعة الجيش. والرأي العام ضد هؤلاء جميعاً: الحكومة والجيش والاستخبارات، كما تقول نتائج استطلاعات الرأي.
يهتز الداخل الاسرائيلي تحت وطأة ثقل صدمة الفشل والمرارة والخيبة، وتبدو تناقضاته كأنها على عتبة إطلاق صدام أهلي من شدة احتدامها وحدّية مواقف كل طرف من أطرافها. لم تشهد اسرائيل مثيلاً لهذا النوع من الخلاف الداخلي على قضايا المصير الكياني حتى في حرب عام 1973 وخساراتها الفادحة فيها. الفارق الوحيد أن نخبتها الحاكمة قبل ثلث قرن كانت أقل مكابرة في الاعتراف بالهزيمة من «نخبة» اليوم في اسرائيل. كان في وسع غولدا مائير أن تلتقط معنى ما حصل لدولتها وجيشها في حرب أكتوبر فتستقيل. أما «عصابة الأربعة» المهزومين اليوم (إيهود أولمرت، عمير بيريتس، شمعون بيريز، ودان حالوتس)، فلا يملكون الشجاعة النفسية للاعتراف بأنهم قادوا جيشهم الى هزيمة نكراء مرّغت سمعته وألحقت به الإهانة!
تلك بعض من النتائج الآنية التي تُلحظ اليوم بالعيان. أما المُختمر منها في رحم الآن مما سيعرّف عن نفسه في المستقبل، فيمكن استشراف بعض ما يرهص له منذ اللحظة، ومنه حقيقتان اثنتان ستزيدهما المراحل المقبلة انكشافاً: سقوط نظرية الردع الاسرائيلية وانهيار ثقة المجتمع (الاسرائيلي) بعقيدة القوة والأمن:
قامت الاستراتيجيا الصهيونية طويلاً على نظرية الردع، سلكت سبيلها الى ذلك بحروب خاطفة دمرت فيها جيوشاً عربية وأخضعت مزيداً من الأرض، أو بحيازة قدرة عسكرية استراتيجية متفوقة (في مجال الأسلحة التقليدية وفي مجال أسلحة التدمير الشامل ومنها السلاح النووي) تكفي لدرء خطر أي تهديد عسكري عربي لها في المستقبل. في الأثناء، لم تتوقف عن استعراض قوتها على العرب في حروب خاضتها مطمئنة الى أنهم لن يحرّكوا ساكناً. فعلت ذلك في «حرب الليطاني» (1978)، وفي حرب «عناقيد الغضب» (1996)، وفي إعادة اجتياح الضفة الغربية (2002)، وفي الحرب المستمرة على قطاع غزة (2002 ــ 2006)، ولم تنس طائراتها أن تحمل رسالة الردع الى مفاعل تموز العراقي قبل ربع قرن والى مقر منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط بتونس. واطمأنت اسرائيل بذلك الى عقيدة الردع خطاً دفاعياً لا يقبل الشك في حصانته، والى مفاعيله النفسية لدى العرب جميعاً.
اليوم، تضرب المقاومة اللبنانية هذه النظرية في الصميم حين أقامت لإسرائيل دليلاً فاقعاً على أن غزواتها واجتياحاتها البرية لم تعد نزهة عسكرية لأجنادها مثلما كانت قبلاً، وأن ضرباتها السهلة في العمق العربي لم تعد ممكنة من دون عقاب مبرح للعمق الاسرائيلي، وأن توازن الخسائر بات متاحاً معها ولم يعد مختلاً كما في السابق. إن تجربة صد الاجتياح البري الناجحة في الجنوب، وإيقاع أكبر الخسائر بالجنود والآليات المدرعة، وتجربة الرد على الغارات الجوية في العمق اللبناني بالضربات الصاروخية الموجعة للعمق الاسرائيلي، جميعها تشهد على الحدود المتواضعة التي باتت تستطيعها العقيدة العسكرية الاسرائيلية. وبعد اليوم، سيكون على اسرائيل أن تضرب الأخماس في الأسداس قبل أن تقرر العدوان على من اعتادت على أخذهم بسهولة ويسر. تلك حقيقة أولى، أما الثانية، فهي أن اهتزازاً حادّاً حصل في ثقة المجتمع الاسرائيلي بعقيدة القوة والأمن لديه التي كان يمنحها إياه جيشه، وفي شعوره بأن هذا الجيش من الاقتدار والكفاءة بحيث يدفع عنه الأخطار. عماد دولة اسرائيل جيشها، والأسّ في تماسك المجتمع الاسرائيلي الاطمئنان الى أمن يوفّره هذا الجيش «الذي لا يقهر»، وقوة الاقتصاد الاسرائيلي من استتباب الأمن «القومي» الاسرائيلي ورسوخه وثقة رؤوس الأموال والمستثمرين بالاستقرار، وتنامي التطور الديموغرافي في الدولة العبرية بالهجرة اليهودية المستمرة الى فلسطين مرتبط بشعور المهاجرين بالأمن في المجتمع الذي سيستقبلهم، وبقاء من هاجر إليها من المستعمرين فيها رهن بالشعور بالأمن والأمان. حينما يهتزّ ذلك كله في أسابيع خمسة من المواجهة مع مقاومة شعبية محدودة العدد والعدّة، سيتساءل أي اسرائيلي في نفسه: إذا كان هذا كله قد حصل مع «ميليشيا» مسلحة ــ كما يقول له قادته ــ فكيف ستكون الحال مع جيوش نظامية ذات إمكانيات أكبر؟
هل هي بداية العد التراجعي للمشروع الصهيوني القائم على الثقة المفرطة بالقوة والتفوق، وعلى الجبهة الداخلية المتماسكة في وجه العدو الخارجي لإسرائيل؟ من المبكر الذهاب الى هذا الاستنتاج بكثير من القطعية والاطمئنان. لكن مشاهد الجنود الاسرائيليين العائدين بخيبة من جبهة جنوب لبنان محطّمي المعنويات أو باكين، ومشاهد الدبابات والآليات العسكرية المدمرة والمسحوبة من الجبهة، ومشاهد جثث الجنود القتلى والجرحى المشحونين في الطائرات المروحية، وطوابير مئات الآلاف من الاسرائيليين النازحين من مدن الشمال الفلسطيني الى الوسط والجنوب، ومشاهد مئات الآلاف من القابعين في الملاجئ، وصور المنازل المدمرة والسيارات المحترقة وحرائق الغابات والحدائق، ومشاهد الهلع الجماعي عند دويّ صفّارات الإنذار... كلها تشي بأن اسرائيل ما بعد 14/8/2006 لم تعد اسرائيل ما قبل 12/7/2006.
* أستاذ جامعي ــ المغرب