ناصر شرارة
تشبه ورشة إعادة إعمار ما هدّمه العدوان، التي يقودها حزب الله، ورشة إعادة إعمار ما هدّمته الحرب الأهلية التي قادها الرئيس رفيق الحريري. والتشابه ينحصر حتى التطابق، في جوانب على صلة بارتباط المعطى الاقتصادي فيها بالمعطى السياسي. ففي الحالتين يُطرح موضوع الخلفية السياسية للأموال التي تتم بها إعادة البناء، واستدراكاً ضرورة توفير غطاء سياسي داخلي لها يُنتج عبر تسوية تراعي محاصصة طائفية وسياسية.
وتستقيم هذه المقاربة أيضاً، في جوانب أخرى من تشابهها، لجهة أنها تعيد لواجهة الصورة اللبنانية، مجدداً، سجالاً كان استثاره ظهور الحريري كمشروع، وتجسّد حزب الله مشروعاً مقابلاً. ولم يكن وضع لبنان بين خياريْ فيتنام أو هونغ كونغ إلا أولى إرهاصات الاتجاه لإرساء معادلة التنافس بين مشروعي المقاومة والدولة في لبنان، وأصبح اليوم معمماً في عدد من الدول العربية.
وبمثل ما بدا آنذاك ويبدو الآن أن لبنان يتجاذبه هذان المشروعان اللذان بينهما خواء، فإن العراق وفلسطين يعيشان اليوم المعادلة نفسها.
وتنجذب المقارنة أيضاً إلى إظهار أن مشروعي المقاومة والدولة في لبنان ينزلقان نحو محاكاة تعقيدات الوضع الذي قام ولا يزال بين مشروعي المقاومة والدولة في فلسطين. وهي تعقيدات لم ينجح في حلّها وصول حماس الى البرلمان والسلطة التنفيذية، تماماً كما أن اشتراك حزب الله في البرلمان والسلطة التنفيذية في لبنان لم يمنع تفاقم نوع مماثل من التعقيدات.
وقد يقود كل هذا، من وجهة نظر البعض، إلى الاستنتاج بأن نظرية استيعاب الممانعات المقاومة والإسلامية في مشروع الدولة الرسمية عبر إشراكها في مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والإدارية، لم تؤد نتيجتها المطلوبة.
ولكن في جانب آخر من صورة هذا الفشل، يمكن تحميل المسؤولية لمطلقي هذه النظرية أنفسهم، عندما انهار صبرهم حيال انتظار كيف سيتصرف الإسلاميون مع منطق الدولة عند وصولهم ديموقراطياً للسلطة في الجزائر، فقطعوا حبل تجربتها قبل أن تبدأ.
ومن مظاهر سياق التشابه والاشتراك بين الطرفين في إنتاج المأزق والفشل في حلّه، يظهر أن انقياد حماس الى السلطة لم يجر داخل تجربة الدولة بل داخل تجربة الصراع على سلطة ملتبسة أولوياتها، برسم التحوّل إلى دولة. وكذا حال تجربة حزب الله، التي قامت على نظرية الاستحصال على شرعية للمقاومة من الدولة ومن داخلها، بعدما شعر بأن مسار اكتفائه بالحصول على شرعية الدولة من خارجها بدأ يعتريه تراجع ومخاطر. وكل هذا السياق الآنف يشير الى أن العلاقة بين الدولة الحاجة والضرورة للمجتمع، والمقاومة الحاجة والضرورة لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي وشهيته للتمدد، استعصى استنباط آلية سياسية لتنظيمها، إذ إن كلاً من الدولة والمقاومة يطرح نفسه نقيضاً للآخر، وعلى حسابه. والنتيجة أنه سواء في فلسطين أو في لبنان فإن نموذجي تعايشهما آيل للسقوط الخطر، وذاهب نحو خيار تصادمهما المادي بعد أن حصل تصادمهما السياسي.
ولن يكون ممكناً، في ظل استمرار احتقان الأخطار بين مشروعيْ الدولة والمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، توقّع تنمية ديموقراطية أو اقتصادية أو بشرية في المنطقة. فوهن الدولة بفعل منافسة المقاومة لها، يؤسس لأن تشغل الاحتلالات مكانها، ومشاغلة المقاومة بأزمات داخلية حول شرعيتها، يؤسس لبذور أنواع مختلفة من الحروب الأهلية تعبّر عن ابتعاد قاعدة الدولة الاجتماعية من المقاومة وابتعاد قاعدة المقاومة من الدولة.
ويبدو أن البحث عن صيغة لجسر انفصام المجتمع العربي بين حاجته للدولة ورغبته في المقاومة والممانعة، بات ملحّاً، في زمن تبدو الحاجة فيه للدولة لرفع التخلّف حادةً، والحاجة فيه للمقاومة لصدّ الاحتلالات ومواجهة الاحتواء العولمي حادةً أيضاً.