كمال مساعد *
يتوقع العديد من المحللين العسكريين أن تغير حرب لبنان الكثير من النظريات والعقائد العسكرية في العالم. كما أنها ستدفع بالقوى الدولية لإعادة النظر في حقيقة موازين القوى وسبل قياسها. فـ«حزب الله» لم يفاجئ اسرائيل في حجم ترسانة صواريخه وتنوعها فحسب، بل فاجأها أيضاً بأسلوبه القتالي وتمكن مقاتليه على طول الجبهات الأمامية من الصمود لأكثر من شهر.
وفيما تكون خسارة الحروب، بالإجمال، إما عسكرية أو سياسية، فإن اسرائيل تخسرها في الوجهين. ومن تداعيات العدوان الاسرائيلي اعادة النظر بكل المفاهيم العسكرية، ومنها دراسة تجديد النظرية الأمنية للدولة وتعديل العقيدة العسكرية للجيش، وتأليف فريق عمل موسع ولجنة تحقيق عسكرية، على غرار لجنة اغرانات التي كلفت بالتحقيق في ملابسات حرب اكتوبر 1973، الا أن التاريخ يعيد نفسه من حيث الفشل الاستخباري لأن القيادة العليا الاسرائيلية لم تقدّر في ذلك اليوم، حتى ساعات الصباح، حتمية اندلاع الحرب. وتأتي التداعيات على النحو الآتي
‌أ- إحداث تغيير في بنية الأركان العامة، وتحديد المسؤولية إدخال تغييرات في عقيدة عمل الجيش وفقاً للساحات المختلفة والوسائط القتالية الحديثة التي دخلت للخدمة أو ستدخلها، خاصة التعامل مع حرب العصابات
‌ب- اعتماد خطة إصلاحات في مجال الطاقة البشرية الدائمة والاحتياطية، وتأليف طواقم لبلورة النظرية الأمنية لإسرائيل والعقيدة العسكرية لجيشها، بحسب العناوين التالية: الأهداف والضمانات حيال ساحات التهديد ــ مستقبل مهمات الجيش الاسرائيلي ــ والمواجهة في حرب غير نظامية ــ الاستقلال والتبعية والمشاركة ــ استغلال التفوّق التكنولوجي في المجال النوعي ــ معاني انتشار الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، والأسلحة الغير التقليدية في الشرق الأوسط. وسوف يولي المخططون العسكريون الاسرائيليون اهتماماً كبيراً لتطوير نظم اعتراض الصواريخ الباليستية، وغيرها من انواع متعددة، وتدميرها خلال مرحلة انطلاقها من منصاتها.
ازمة الجيش خلال المواجهة
واجه الجيش الاسرائيلي خلال المواجهة أزمة حقيقية في استراتيجيته وتكتيكاته العسكرية، وذلك لعدّة أسباب:
- اتّكال القيادة الاسرائيلية المفرط على سلاح الجو. ويعزو بعض الخبراء الاسرائيليين ذلك إلى كون قائد الأركان الاسرائيلي الحالي من سلاح الجو. لكن اعتماد اسرائيل على سلاح الجو لحسم المعركة على الأرض ليس بالأمر الجديد. كما أن اسرائيل أخذت تعتمد باضطراد على سلاح جوها في مواجهة مقاتلي «حزب الله»، ومردّ ذلك هو العقيدة العسكرية الاسرائيلية التي تضع ضمن أولوياتها تقليص الاصابات في صفوف جنودها. كما أن النتائج المبهرة للقوات الجوية لحلف شمالي الأطلسي في حرب كوسوفو، حيث حسمت الحرب من الجو، وما تلاها من نتائج مذهلة للقوات الجوية الأميركية خلال حرب العراق، زادت من ثقة القيادة الاسرائيلية في إمكان إحراز نصر من الجو.
- الاعتماد المتزايد على سلاح المدرعات في المعارك البرية مع إعطاء دور ثانوي لسلاح المشاة. ومردّ ذلك اعطاء الاولوية لتحقيق نصر سريع عبر الحرب الخاطفة التي تعتمد على الحركة السريعة للمدرعات عبر خطوط الخصم ووراءها وتحت غطاء جوي ومدفعي. لكن الصواريخ المضادة للدروع انتزعت تفوق الميركافا وأفشل حركتها.
- افتقار الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية إلى معلومات دقيقة عن إمكانات «حزب الله» ومراكز قيادته ونوعية أسلحته وتكتيكاته القتالية ومخازن أسلحته. فأحد أكبر إنجازات الحزب، منذ نشأته، هو منع الاستخبارات الاسرائيلية من اختراق صفوفه، وحتى في نجاحاتها المحدودة على هذا الصعيد، كان الجهاز الأمني للحزب يعالج المشكلة بسرعة ويفكك شبكات التجسس. فكل ما حصل منذ 12 تموز (يوليو)، من تمكن المقاتلين من خطف الجنديين الاسرائيليين، ومفاجأة البحرية الاسرائيلية بصاروخ موجّه، وتمكنهم من الصمود على الجبهات، وإلحاق خسائر في المدرعات، وفشل الكوماندوس الاسرائيلي في تحقيق أي أهداف في عمليات الانزال، وعدم تمكن اسرائيل من وقف إطلاق صواريخ الكاتيوشا على أراضيها، كل ذلك يعدّ من الناحية العسكرية إخفاقات استخبارية كبيرة.
- أثر الاتكال المتزايد على التكنولوجيا وشلّ القدرات القتالية لسلاح البر، خاصة عند الفشل في تحقيق السيطرة الكاملة على أرض المعركة خلال مواجهة خصم عنيد ومحترف. كما أن الجيش الاسرائيلي لم يخض أي حرب برية منذ اجتياح لبنان عام 1982، سوى التصدي للانتفاضة، وغالبية جنوده الذين هم من الاحتياط قد اعتادوا على وسائط امان في المواجهة.
التحكم في سير المعركة
وهكذا جاء حسن استخدام الصواريخ التكتيكية المضادة للدروع، ووضعها في نقاط استراتيجية مكّنت المقاتلين من تدمير المدرعات الاسرائيلية وشل حركتها، الأمر الذي منع سلاح المشاة الاسرائيلي من احتلال الكثير من المواقع المهمة على الأرض. ولم ينجح التكتيك الاسرائيلي القديم في محاصرة القرى وقصفها بعنف لبضعة أيام ومن ثم اقتحامها بالمدرعات التي يتبعها المشاة، إذ إن مقاتلي «حزب الله» احتموا في أماكن عدة داخل القرى وخارجها وانتظروا تقدم العدو باتجاههم والاشتباك معه. وعليه، فإن مقاتلي الحزب تحكموا في سير المعركة البرية ضمن شروطهم وفي المواقع التي اختاروها مسبقاً، الأمر الذي أربك القوات الاسرائيلية وعوق تقدمها.
الأداء الإسرائيلي السيئ
وفي متابعة منفصلة للموقف، وصف العدو الاسرائيلي جهوزية مقاتلي «حزب الله» بأنها تصل إلى مستوى جندي نظامي محترف «مزود معدات للرؤية الليلية وبزات واقية من الرصاص وأجهزة اتصال وأسلحة فردية حديثة وتشكيلة متنوعة من القنابل والصواريخ المحمولة». وأدّى امتلاك «حزب الله» أجهزة الرؤية الليلية إلى فقدان اسرائيل عنصر تفوق كانت تمتلكه قواتها سابقاً، وهو قدرتها على القتال في الظلام مستخدمة أجهزة الرؤية الليلية التي كان يفتقر إليها الحزب في السابق. وكان الاستراتيجي الأميركي أنطوني كوردسمان، الذي يعدّ من كبار الباحثين العسكريين في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن، قد انتقد أداء الجنود الاسرائيليين، وقال: «لا يبدو مثيراً للإعجاب من الناحيتين الاستراتيجية والتطبيقية... ويبدو أن التطبيق التكتيكي للقوات الجوية والبرية ضعيف». ويضيف أن «الضربات الجوية والبرية الاسرائيلية لم تلحق أي ضرر حقيقي بحزب الله». ولكن، لا شكّ في أن أهم ما لفت انتباه الاسرائيليين، هو أن المعادلة في هذه الحرب تختلف عن أي معادلات أخرى. فقد تعوّد الاسرائيليون أنه في مقدور جيشهم توجيه ضربة قاضية خلال فترة قصيرة، أقصاها ستة أيام، ونقل رحى الحرب إلى الأراضي العربية لا الاسرائيلية.
* باحث استراتيجي