صالح عبد الجواد *
تطلق بعض الفضائيات والصحف العربية اسم الحرب السادسة على المواجهة الباسلة الأخيرة بين مقاتلي المقاومة اللبنانية والعدو الاسرائيلي. وتسمية ما يجري الآن الحرب السادسة يوحي ضمناً أن العرب قد سبق لهم أن خاضوا غمار خمس حروب مع اسرائيل (1948، 1956، 1967، 1973، 1982)، وهذه برأيي مقولة بحاجة الى مراجعة، فحتى الآن لم يخض العرب أي حرب مع اسرائيل، بالمعنى الإجرائي (التقليدي) للكلمة.
نظرياً، خاضت سبعة جيوش عربية حرب عام 1948 على عصابات صهيونية. أما من الناحية العملية فإن رواية الحرب ليست أكثر من أسطورة. الحرب المزعومة لم تكن أكثر من مشروع تطهير عرقي نفّذه الصهاينة ضد المجتمع الفلسطيني. الفلسطينيون أنفسهم أصحاب الأمر لم يعلنوا التعبئة للحرب، حتى عندما بدأت النكبة تطل عليهم برأسها. صحيح أن آلاف القرويين الفلسطينيين شاركوا ببسالة في الدفاع عن قراهم كميليشيات محلية (سيئة التدريب والتسليح والتنظيم)، ولكن القوة العسكرية الوحيدة التي نظّمها الفلسطينيون (الجهاد المقدس) لم تتجاوز 2000 مقاتل بأسلحة وعتاد لا ترتقي في أي حال من الأحوال إلى مستوى تسليح عدوهم. لم تكن هناك قيادة فلسطينية مركزية للحرب بل مجرد رمز سياسي، وحتى الهيئة العربية العليا التي أفرزها النظام العربي كقيادة للشعب الفلسطيني والحاج أمين الحسيني كانا خارج فلسطين. أما الدول العربية فقد خاضت الحرب مشتتة، لكل منها أجندتها الخاصة وإن جمعها الخوف من غضب الرأي العام في بلادها. الأردن بقيادة عبد الله نسّق مع الصهاينة لضم ما كان يمكن أن يكون دولة فلسطينية لإمارته شرق النهر، أما محور مصر والسعودية وسوريا فهمّه الرئيسي كان الحيلولة دون تحقيق عبد الله مبتغاه: تأسيس سوريا كبرى تحت إمرته. الجيش العراقي، الأفضل تسليحاً بين الجيوش العربية، راوح مكانه في وضع «ماكو أوامر»، فيما اكتفى الجيش اللبناني بما حققه مغاويره من نصر في معركة المالكية و«كفى الله المؤمنين شرّ القتال». وفي الوقت الذي كان فيه عدد سكان البلاد العربية التي دخلت جيوشها الحرب يقارب 40 مليوناً، فإن مجموع قواتها مجتمعة على أرض فلسطين لم يزد عن 40 ألفاً. في المقابل بلغ عدد القوات الاسرائيلية في نهاية الحرب 106 آلاف من عدد سكان لا يتجاوز 700 ألف شخص. فأية مقومات للحرب توافرت في هذه المواجهة غير المتكافئة؟
في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم الاثنين 5 حزيران 1967، أي بعد أقل من ساعتين على «اندلاع الحرب» على الجبهة الأردنية، كان محمد سليم قائد الجبهة الأردنية في الضفة الغربية يلملم أثاث منزله وعنزاته (أي نعم عنزاته) يضعها في لوريات كبيرة، يهجر جبهته والقدس ويغنم بالسلامة. المعركة الوحيدة التي خاضها الجيش الأردني فعلاً خلال «الحرب» كانت معركة استبسلت فيها وحدة أردنية صغيرة مكونة من 40 جندياً على تلة تقع على بعد 1 كم شمالي القدس. قاتلوا حتى النهاية ولكن ليس قبل أن يكبّدوا الجيش الاسرائيلي ــ وباعترافه ــ خسائر بشرية فادحة بلغت 34 جندياً من رجال المظلات الاسرائيليين. دفن بواسل هذه الوحدة في مقبرة جماعية على بعد مئات الأمتار جنوبي المكان الذي رووه بدمائهم. ولعله كان حرياً بالحكومة الأردنية، وخصوصاً بعد توقيع اتفاقية السلام مع اسرائيل، أن تحدد مكان دفنهم وتحيي ذكراهم.
القيادة المصرية كانت بعد نكبة عام 1948 قد وقعت في وهم مفاده أن هزيمة الجيش المصري مردها الرئيسي إلى الأسلحة الفاسدة. استثمرت مصر جزءاً كبيراً من طاقاتها في شراء أسلحة حديثة جداً (صفقة الأسلحة التشيكية)، بيد أنها هزمت عسكرياً عام 1967 لأن تزويد الجيش المصري بهذه الأسلحة لم يواكبه التدريب الملائم والتعبئة الضرورية للمجتمع. يضاف الى أسباب الهزيمة فساد ضباط الجيش الذي فاق فساد الطبقة السياسية الإقطاعية القديمة. هل ننسى بعض الطيارين المصريين السكارى في حفلة الأنس والطرب والحشيش في الليلة التي سبقت تدمير طائراتهم؟. إن الانتصار السياسي عام 1956 لم يأت نتيجة انتصار عسكري وإنما نجم من موقف دولي استثنائي. وقد نتج من هذا الانتصار خطاب سياسي أخفق تمييز الفرق وأعمى عبد الناصر عن استخلاص عبر 1956 فكانت كارثة 1967.
فقط بعد عام 1967 بدأت مصر لأول مرة بالاستعداد لحرب مع اسرائيل، ولكنها ارتكبت خطأ إسقاط المجتمع المصري من حسابات تحضيراتها. الاستعداد للحرب بقي محصوراً بالجيش وظل المجتمع المصري في غالبيته خارج عملية التعبئة والتنظيم. على أية حال، يفسر هذا الاستعداد ولو الجزئي الأداء المختلف للجيش المصري خلال حرب الاستنزاف وحرب 1973، بالأسلحة السوفيتية نفسها التي كانت بحوزة المصريين عام 1967. ولا تفوت الإشارة هنا الى دور بعض الدول العربية الضاغط قبل عام 1967 في اتجاه الإدارة الأميركية لتوجيه ضربة لمصر وهو ما أثبتته وثائق كُشف عنها أخيراً.
حتى المقاومة الفلسطينية المعاصرة التي ادّعت أنها نقيض الأنظمة العربية، أنظمة التقصير و/أو الخيانة، لم تعدّ من رباط الخيل ما ترهب به عدوها. يتساوى في ذلك أهل اليسار وأهل اليمين. بعد أكثر من 40 سنة من صراع الفلسطينيين العسكري مع اسرائيل لا تجد ورقة من صفحتين تلخّص استراتيجيا للعمل العسكري الفلسطيني تعكس فهماً لخصوصية الصراع العربي ــ الاسرائيلي. العمل العسكري ظل ويظل ردّ فعل، عملاً استعراضياً هدفه في الغالب تحقيق مكاسب سياسية داخلية. اختراق المقاومة الفلسطينية وعلى كل المستويات من أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية كان أكثر بكثير من درجة اختراق الجيوش والنظم العربية. فكانت هزيمة المقاومة في كل ساحة وُجدت فيها (جبال الضفة الغربية من الأردن، وفي لبنان) على رغم الكفاحية العالية التي أبداها الشعب الفلسطيني. تجربة حزب الله، اليوم كما في التسعينيات، هي الوحيدة منذ بدء الصراع العسكري مع اسرائيل التي أنتجت بنية مقاومة متكاملة عبّأت كل طاقات قاعدتها الاجتماعية عسكرياً وسياسياً وثقافياً ونفسياً لهذه المواجهة. وهي الوحيدة التي أفرزت قيادة درست عدوها لتطوّر أفضل استراتيجيا لهزيمته ضمن المعطيات المتوافرة لموازين القوى.
* محاضر في دائرة التاريخ والعلوم السياسية
جامعة بيرزيت