كاظم الموسوي *
تزايد تكرار هذه الكلمة، المشرحة، هذه الأيام في الأخبار المنقولة عن العراق «الجديد»، الذي أرادته الإدارة الأميركية وحلفاؤها، وأصبحت للعراق عنواناً آخر لافتاً للانتباه بلا شك، فكل مرة تتحدث الأخبار عن أرقام شهداء الشعب العراقي وأعداده، وضحاياه، إضافة الى نهب ثرواته وتبدّدها على المكشوف وعلناً ويومياً، تتقدم أسئلة كثيرة ومثيرة حولها وعن الصمت المريب عنها، وهل ثمة وراء ما حصل ويحصل ما هو أخطر، وتمرر من خلفه بقية التفاصيل كلها. أين الضمير الإنساني؟ أين صوت العالم المتحضر وقوانينه الدولية وشرعيته؟ أين منظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني الدولية والاقليمية ومتى يبدأ عملها وما هي مهماتها إزاء شعب وبلد محتل بقوات أجنبية وحلفائها المحليين ويحدث فيه ما لا يمكن قبول الصمت عنه أو السكوت أو التفرّج أو البحث عن مبرّرات خادعة وتصريحات براقة؟. أما زال العالم يعيش إنسانيته وضميره أو أننا أمام عالم آخر ونظام جديد وأسماء مختلفة لعصر مغاير؟!.
حصيلة شهر واحد، يوليو الماضي، في مشرحة واحدة ببغداد أكثر من ألفي قتيل. وأضافت وسائل الاعلام أن الأعداد تزيد على الشهر السابق والأسبق، وفي كل شهر انقضى أو سيأتي هناك أرقام وإحصائيات عن بشر يقتلون وتمتلئ بهم المشرحة هذه وغيرها، وخارجها طبعاً من دون حساب أو سؤال عنها. ولم يتساءل أحد عن العدد الكلي في ذلك الشهر وحده في العراق كله!، وما هي الأسباب ولماذا تجري هذه المجازر الانسانية ومن هو المسؤول عنها؟، والى متى تبرر هذه الانتهاكات الصارخة وهذه الاعتداءات الوحشية على الناس الابرياء ويسكت عنها، وكأنها تحدث في مكان خارج الكرة الارضية التي تتحمل هذه المنظمات وظيفة الدفاع عنها بكل ما لديها من شرعية قانونية واهتمامات انسانية. بينما وبكل صفاقة يتحدث المجرمون المتهمون بها، من عصابات المحافظين الجدد وفرسانهم المتحدثين عنهم أو المدفوعين بأمرهم، عن الحرية والديموقراطية والحكومة المؤلفة ديموقراطياً، في وقت يقررون زيادة أعداد جيش الاحتلال وبناء قواعد عسكرية من جهة، وتحت مسميات محاربة الارهاب يبتدعون صنوف القتل الجماعي والابادة البشرية عبر أوامرهم بنشر فرق الموت والارهاب الفعلية والاشراف عليها وتمويلها من موازنة دافعي الضرائب ونهب الخيرات العراقية وعائداتها واستخدام وسائلهم في الكذب والتضليل الاعلامي وتشويه الحقائق والوقائع والتغطية على الارتكابات والانتهاكات والمجازر الهمجية التي تمارسها تلك القوات والفرق والادارات والسياسات الاجرامية من جهة أخرى. قوات الاحتلال الاميركية وحلفاؤها بالعراق يتحدثون عن تناقص اعداد قتلاهم على رغم اعترافهم بتصاعد اعمال المقاومة الوطنية المسلحة ضدهم، وتنوع أساليب مقاومتها ورفضها الاحتلال الوحشي ودعاته المراهنين عليه، ويفسرون ذلك بتحسين أدوات دفاعاتهم وتطوير أجهزتها وحمايتها لمرتزقتهم وقوات احتلالهم للعراق، ولكنهم لم يبذلوا هذا الجهد لحماية السكان الآمنين، وهو التزام قانوني عليهم وفق كل القوانين الدولية واتفاقيات جنيف وملاحقها والاعراف والقيم الانسانية التي يتبجّح بها مسؤولوهم في البيت الابيض والبنتاغون وعواصم التحالف الاستعماري الجديد. ويبشر أركان الاحتلال العراقيين بحرب أهلية، ويشجعون في ثنايا مخططاتهم قيامها على رغم خشيتهم من شررها على مشروعهم الراهن، ولكنهم، كما هو معروف عن الطبيعة الامبريالية لهم، يوفرون الأجواء لها ويشرفون على خطواتها ما دامت ضمن مخططاتهم لفرضها على الشعب ودفعه إليها وإشغاله بها، والتفرد بتحقيق الأهداف السرية التي لم يعلنوها للهيمنة والنهب والانتقام. فبعد أكثر من ثلاث سنوات من الاحتلال لما يزل الوضع في العراق أو أصبح أكثر سوءاً مما كان عليه سابقاً،باعتراف فرسان الاحتلال أنفسهم، على جميع الصعد والمستويات، بل ازداد تدهوراً وكوارث على ما كان عليه حتى في أشكال ما يدعونه بالحريات والديموقراطية والأمن والأمان الفردي والجماعي. وتتصاعد حالات الفساد والخراب من قوات الاحتلال وأعوانه ومنفذيه الى درجة تدخّل الاحتلال بنفسه للحدّ منها ومراجعتها ونشر غسيلها في وسائل الاعلام. واصبحت احلام اغلبية المواطنين العراقيين تكتفي حتى بالحد الادنى من العيش والحياة كبشر، في بلد غني بأكبر احتياطي نفطي، وثروات بشرية وطبيعية وبتراث عمره آلاف السنين من الحضارة والتقدم الثقافي، وذي امكانية للتطور والنهوض بشكل أرقى من دول الاحتلال نفسها.
وضعت ارقام المشرحة العراقية الأمر أمام العالم أجمع وعليه أن يتحمل مسؤولية النتائج والعواقب، فهذه الدماء والارواح لا تذهب هدراً ولا بد من ان تتفاعل آثارها اجتماعياً وانسانياً وفعلياً داخل المجتمع العراقي ومن يريد التعاطي معه بأي شكل من الأشكال. وهذا ما تحمله الأيام من ارهاصات وبدايات شعبية علنية اضافية على ما تقوم به المقاومة الوطنية المسلحة من تصد مباشر لقوات الاحتلال ومرتزقته. بوادر اخرى تبرز في الشارع العراقي، بعد أن طفح الكيل وصعب التحمل. هذه البوادر المتراكمة، التي ستتنوع حتماً في أساليبها، بدءاً من التظاهرات المطلبية والاضرابات المحدودة في اكثر المدن التي كانت تتحجج قوات الاحتلال وأعوانها بتمتعها بالهدوء ورخاء التغيير والحرية، الى التلاحم في أرقى اشكال الكفاح السياسي، حيث نقلت البيانات عنها بأنها سلمية حتى الآن من أجل أهداف مطلبية حياتية، وعلى رغم ذلك فتحت عليها نيران الاحتلال ومرتزقته لإسكاتها وقمعها والدجل عليها. وهذه في الحقيقة هي أيام الاحتلال والاستعمار السوداء وسطور النضال التي تفتخر بها سجلات التحرر الوطني، لكل الشعوب والبلدات التي تعرضت لمثل هذه الاوضاع.
التدهور المريع في العراق أخذ بالاطّراد والتوسع، والصور القادمة أكثر قتامة. لا شيء يجمع الآن بين ما يقال ويحصل، بين الحرية والاغتصاب،. انها أخبار مشرحة عراقية وردود فعلها، قد تتزايد ارقامها كل يوم او كل شهر، لا فرق... في زمن الاحتلال او الشرق الاوسط الجديد، نموذج لمن ينتظر او يشتهي ان يكون!!. ولكن هل ستظل «دار السيد مأمونة» كما قال نوري السعيد مرة؟!.
* كاتب عراقي