في كلّ مفصلٍ سياسيّ تقريباً، وفي خضم كل حملة أو مناسبة (سواء أكانت انتخابات عاديّة أم غزو العراق أو الحراك اللبناني الأخير، لا فرق) هناك دينامية تحضر باستمرار، يمكن تلخيصها على النحو التالي: هناك دوماً طرفٌ ما يريد "أن يبيعك شيئاً"، رواية خير وشرّ، سردية عن "حربٍ ضرورية"، صورةٌ جميلة عن شبابٍ مثالي بريء لا يدفعه الا الحماس، الخ. خلف هذه الصورة المثالية والتي تمّ تصميمها بعناية، تختبىء بالضرورة حقيقة مختلفة، ومصالح فعلية، وأجندات فردية، لا يمكن أن تتوافق مع "السلعة" كما يتمّ تقديمها. وقد تعلّمت سريعاً أنّ المهمة الحقيقية للصحافي، وكل من يكتب في الشأن العام، هي في أن يكون نقدياً تجاه هذه "السلعة"، وأن يقترب من الصورة ويفكّكها ويكشف ما خلفها، وليس أن يساهم في عملية التلميع والتوضيب والتسويق.بالمعنى نفسه، فإنّ أكثر صنوف الحملات السياسية التي تثير الشكّ، وتدعو الى التدقيق والتمحيص، هي تلك التي من الممكن أن نسميها "حلول الخطوة الواحدة"؛ أي حين يشرح لك طرفٌ ما بأنّه يكفي أن تنزل الى الشارع مثلاً، أو تضع ورقةً في صندوق، حتى ننتقل فجأة من حالٍ الى حال، ونسقط النظام، ويكون مستقبلٌ يقطع مع الحاضر. المشكلة في هذه الحالات ليست أنّ التوقّعات والوعود عالية السقف ومن الصعب تحقيقها (فمن الطبيعي لكل حركة ومشروع أن يضع نصب عينه أهدافاً طموحة)، المشكلة هي أنّ هذه الحملات تعد باختزال كلّ العمل الدؤوب والخطوات والنضال الذي تتطلبه، تاريخياً، هذه الأهداف والتحولات، ولا تقدّم خطة واقعية، منطقية، للوصول اليها ــــ بل تعد بحرق المراحل وتحقيق ما نرغب به فورا وبـ"خطوة واحدة"؛ ومن هنا هي مغرية وجذابة، وفي الآن ذاته خطرة. لهذه الأسباب، نجد صفات مشتركة في هذه الحملات: أهدافها عامّة وغير محددة، لا تقف خلفها تنظيمات علنية ومعروفة، تجري وسط زخمٍ اعلامي كبير، وشعاراتها فضفاضة الى درجةٍ تسمح لجمهور وفئات متعددة، ذات أهداف ورؤى متناقضة، بالاعتقاد بأن الحركة تتكلم باسمها هي (الانقلاب، من جهة أخرى، هو خطة "من خطوة واحدة" ولكنها "واقعية" على الأقل. والكثير من هذه الحركات، كما في اوكرانيا ومصر، تبين في النهاية أنّها انقلاب، ولكنّ الانقلاب ينطوي على مجموعة معينة تقرر سلفاً من سيحكم، وتستخدم الآخرين في سبيل ذلك، على عكس "الصورة" التي تبيعها للجمهور لدى احتدام الأحداث).
من أكثر المجالات التي تجتذب "حلول الخطوة الواحدة" هو ميدان الانتخابات ومواسمها. المسألة هنا تتجاوز فكرة أنّ الانتخابات، بطبيعتها، هي تتويجٌ للقوة الاجتماعية ولا يمكن في أيّ حالٍ من الأحوال أن تكون معبراً اليها؛ بل هو سؤال يتعلق بمؤسسة الانتخابات في حدّ ذاتها، بصفتها "اللعبة" الأهمّ في عالمنا السياسي. ولأنها لعبة، فهي (كالقمار) تعطيك دوماً ــــ نظرياً وظاهراً على الأقل ــــ احتمالاً بالفوز والظفر، ومن هنا اغواؤها وقابليتها لأن تصير منصة للطموحات والوعود (والأوهام). من زاوية الممارسة السياسية وقواعد العمل وأفق الاحتمالات، فإن الانتخابات في اميركا ولبنان والصين تعني أموراً مختلفةً تماماً، ولكن المشترك بينها جميعاً، ووظيفتها الأساس، هو أن الانتخابات تعمل كـ"صندوق سحري" يُسبغ على النظام شرعية من نوعٍ فائق، لا ترقى الى الشك والتحدي، وتختلف جوهرياً عن الغلبة أو الهيمنة أو اي تبريرٍ آخر للحكم والسلطة. ولأنها لعبة ايضاً، فالانتخابات لا قيمة لها الّا اذا أخذتها على محمل الجدّ، وشاركت فيها ووافقت على قواعدها ونتائجها.
لهذا السبب، هناك حجة سلطوية تتكرر على الدوام، تحضّ على المشاركة في الانتخابات كقيمة في ذاتها وكنوعٍ من "واجب"، وأنه يجب أن تصوّت دائماً ــــ في أي انتخابات وكل انتخابات ــــ وترى أن المقاطعة هي "موقفٌ سلبي" يستحقّ اللوم، وتفريط بحقك وصوتك، وأن تصويتك ـــــ وإن في غياب احتمال التغيير ــــ واجبٌ أقلّه لمنع "الأسوأ" من الفوز (وهناك دائماً "أسوأ"، حتى بين ترامب وكلينتون). هذا الخطاب سائد لأن النظام يحتاج دوماً الى هذه المشاركة وهذه "البيعة"، من خصومه قبل مواليه، بل هي فعلياً كل ما يريده منهم. في اميركا، على سبيل المثال، لم تشعر المؤسسة السياسية بالقلق الحقيقي من احتمال قيام حزبٍ ثالث أو تيار راديكالي أو فوز شخصٍ كترامب أو ساندرز، ولكن التحذيرات ارتفعت حين انحدرت نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات، وهبطت دون الخمسين في المئة في السباق الرئاسي في بداية التسعينيات، وخرجت تحليلات تقول إنها ستتقلص أكثر وباستمرار مع عزوف الكثير من الناس (خاصة الأقليات والفقراء) عن التصويت، وشعورهم بأن نتيجة الانتخابات لن تؤثر فعليا على حياتهم ومشاكلهم.
ولكن حين تكون "اللعبة" مغشوشة، أو مقررة سلفاً، أو مجرد غطاء للغلبة والاستتباع وسلطة المال، فقد يكون "الموقف السلبي" هو في المشاركة بها والتصديق عليها وتشريعها، وليس في المقاطعة أو، حتى، عدم الاكتراث ــــ وهو ايضاً موقف سياسي. في انتخابات بلدية بيروت يوم الأحد، ستفوز لائحة "المستقبل" وحلفائه، لا لأن هناك غشّاً وتزويراً، ولا بسبب "مرض الطائفية"، بل لأنها تمثّل نفوذاً مادياً حقيقياً يربط الناس به، أو يدفع البعض الآخر ــــ كأغلب البشر ــــ الى الميل صوب "الفريق الرابح" والتماهي معه، وتفضيل مزايا الحكم على منابر المعارضة. هذه السلطة المكرّسة تحتاج، بشكل دوري، الى العملية الانتخابية ومظاهرها حتى تجدد شرعيتها، وكلما كان شكل هذه العملية "حقيقياً"، وفيه معارضة وتنافس و"بدائل"، كلما حققت الهدف المرجو منها.
في سياقٍ كهذا، لا عيب في أن ترفض أن تلعب اللعبة، أو أن تعمل من خارج النظام إن كنت لا تؤمن به، وتبني نفسك (كما فعلت كل الحركات الأصيلة والناجحة) في المجتمع عبر العمل الصامت والتخطيط ومراكمة الانجازات، وليس الفشل. وتأسيس قوة بديلة واضحة سياسياً، تعرف ما تريد وكيف تحصل عليه. مقياس النجاح هنا لا ينحصر في إحياء تظاهرة أو "تنظيم ثورة" كهدف مباشر وأوحد، بل يقاس أساساً بالقدرة على البذل والتضحية، والمخاطرة ونكران الذات (وهذه نستشفّها، قبل أي شيء آخر، من السلوك الفردي، والأولويات والطموحات، وخيارات المهنة والحياة، وليس المواقف الرنّانة).
في نظامٍ كلبنان، "الموقف السلبي" الحقيقي هو في أن تصوّت للائحة مهيمنة، تعرف في قرارة نفسك أن خلفها فساداً وعجزاً وخيانة (خاصة ان لم تكن مستفيداً مباشرة ولم تقبض الثمن)، وليس أن تستنكف عن إعطاء النظام صوتك وجهدك واهتمامك. من جهة أخرى، كما يقول الزميل جمال غصن، حين ينتقل بعض الناشطين، خلال أشهر، من المحاججة بأن النظام فاسد وغير شرعي وميؤوس منه الى اقناعنا بأن هناك احتمالاً بأن "نتسلل" اليه، ونلعب لعبته ونفوز عليه فيها، فمن الطبيعي أن نشكّك بجدوى هذه "البدائل"، وأن لا نصوت، بالطبع، لمجرّد تسجيل الموقف أو للتنويع وتحدي الملل. بالمناسبة، حقبة التسعينيات، التي يصفها المحللون اليوم كمرحلة ركودٍ ونظامٍ "ممسوك"، لم تكن ــــ من داخلها ــــ مملّة على الإطلاق، وكان النظام يحرص على ابقاء دفق مستمر من الفضائح والجدال السياسي والحملات الانتخابية المثيرة ــــ باستثناء المناطق التي كانت تقاطع الانتخابات جماعياً، وقد سببت أزمة حقيقية لنظام الجمهورية الثانية في بداياته. أمام هذه الخيارات، قد يكون التصويت للعائلة أفضل من التصويت للحزب، والتصويت للحزب أفضل من التصويت للزعيم؛ والمقاطعة، في حالاتٍ كثيرة، هي الموقف المشرّف المُتاح.