ارتبط نشوء الحركة الشيوعية العربية بثورة تشرين الأول/ أكتوبر البلشفية الروسية عام 1917. وكاد تفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1991 أن يجعل الشيوعيين العرب في حالة موت سريري. يعطي هذا صورةً عن تبعية الحركة للمركز السوفياتي، وهو ما لم يكن مقتصراً على السياسة والتنظيم بل شمل الفكر والثقافة. ومع ذلك، لم تكن هذه الحركة تعتمد على أوكسجين خارجي فقط، بل بلغت حدّاً بأن تكون قوّةً سياسيةً كبرى، في العراق وسوريا والسودان، فيما كان لها دور ثقافي كبير في مصر ولبنان، ويدّلُ على انغراز في التربة المحلية العربية.ففي مراحل عدّة، كان العامل السوفياتي مساعداً لنمو الأحزاب الشيوعية، وتقويتها. فحينما انتصرت الحركة السوفياتية الرئيسية على النازية، ساعدت في نشوء وإحداث مدٍّ شيوعي عربي في العراق 1945-1948، وفي سوريا 1945-1947. كان دور موسكو في مساعدة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في حرب 1956 عاملاً رئيسياً في نشوء مدٍّ شيوعي جديد في سوريا، في 1957-1958، وفي العراق 1957-1963، وفي مصر 1957-1958.
وفي مراحل أخرى، كان الموقف السوفياتي دافعاً لإحداث كوارث عند الشيوعيين العرب. موقف موسكو في تأييد قرار تقسيم فلسطين، وفي تأييد قيام دولة إسرائيل، دفع الشيوعيون العرب ثمنه غالياً في دمشق وبغداد، عامي 1947-1948. ودفع موسكو بالشيوعيين العراقيين للصدام مع العروبيين، إثر ثورة 14 تموز 1958. وكان سبباً في اعتقالات رأس سنة 1959 للشيوعيين السوريين والمصريين من قبل عبد الناصر.
في مراحل، كان
الموقف السوفياتي دافعاً لإحداث كوارث عندالشيوعيين العرب

فالمجازر المتبادلة بين الشيوعيين والعروبيين في العراق، بدأت في الموصل، في آذار1959، وبلغت ذروتها ردّاً على ما فعله الشيوعيون، هناك، بمجزرة ارتكبها البعثيون ضدهم إثر انقلاب 8 شباط 1963. حينها، ضغطت موسكو على الشيوعيين المصريين لحل حزبهم عام 1964، بعد زيارة خروتشوف للقاهرة، وعلى الشيوعيين العراقيين للتقارب مع حكم عبد السلام عارف، عبر «خط آب 1964». ثم ضغط الكرملين على الشيوعيين السوريين والعراقيين للركوب في مركبي النظامين البعثيين في دمشق 1972، وبغداد 1973. فيما قاد هذا الضغط السوفياتي على الشيوعيين السودانيين إلى التعاون مع النميري، وإلى انشقاق الحزب الشيوعي السوداني عام 1970، وإلى الدفع بعبد الخالق محجوب، الرافض لضغط موسكو إلى انقلاب 19-22 تموز 1971 الفاشل.
في مراحل ثانية، كان العامل الذاتي سبباً في النمو والانغراز في التربة المحلية. يُلاحظ ذلك في الحزب الشيوعي السوداني، بين النشوء في 16 آب 1946، وضربة النميري في 22 تموز 1971. وحتى في مرحلة ما بعد إعدام محجوب، والشفيع الشيخ، استطاع الشيوعيون السودانيون اثبات أنهم رقم صعب في المعادلة السياسية السودانية، طوال أربعة عقود لاحقة. وهذا لم ينتج عن مهارات ذاتية فقط، بل عن تجذّر الحزب عميقاً في التربة المحلية.
في العراق يُلاحظ هذا في فترة قيادة يوسف سلمان يوسف، «فهد»، للحزب بين عامي 1941 و1947، وفي فترة قيادة حسين الرضي، «سلام عادل»، 1955 -1963. وعندما تحوّل الشيوعيون العراقيون، في الفترة الأولى، إلى قوة كبرى في الأوساط العمالية والطلابية، سيطروا على فئة المثقفين. وفي الأوّل من أيّار 1959، أنزلوا مليون شخص إلى شوارع بغداد، في بلد لم يتجاوز مجموع سكانه، يومها، عشرة ملايين نسمة.
كان هناك نمو ذاتي في الحزب الشيوعي السوري في فترة النضال ضد ديكتاتورية الشيشكلي (1951-1954). وبعد سقوطه، وبداية الفترة البرلمانية، حيث عكست الأصوات الكبيرة التي أخذها خالد بكداش في دمشق في انتخابات 1954 ذلك. كذلك الأصوات التي نالها أحمد محفل في حلب، عندما كاد أن ينجح أمام مرشح حزب الشعب. وكان النمو الكبير للحزب عام 1957 مؤدياً إلى تحوّل الحزب إلى القوة السياسية الكبرى في دمشق. وهو ما دفع عروبيين كثيرين للارتماء في أحضان عبد الناصر، خوفاً من ترجمة المدّ الشيوعي في الانتخابات البرلمانية، المرتقبة، عام 1958.
وفي فترة 1967-1970، شهد الحزب الشيوعي السوري مدّاً في العضوية والامتداد، بحكم صدمة هزيمة 5 حزيران 1967. كانت أزمة الحزب في عامي 1971-1972، ثم انشقاقه عاملاً أساسياً في توقف ذلك المدّ، الذي كان ردّ فعلٍ على فشل عبد الناصر والبعث أمام اسرائيل. وهو ما شهدنا آثاراً له إثر هزيمة حزيران في سوريا. إذ تحوّل عروبيون كثر في «حركة القوميين العرب» و»حركة الاشتراكيين العرب» و»البعث» نحو الماركسية. وهو ما تولّدت عنه ظاهرة «الحلقات الماركسية»، بين عامي 1971-1973.
كان هذا التحول قد شمل الكثير من قيادات «حركة القوميين العرب» في الوطن العربي، من جورج حبش، إلى نايف حواتمة، ومحسن ابراهيم، وعبد الفتاح اسماعيل. لم يستطع الشيوعيون العرب تحويل هذه الهجرة إلى الماركسية عند العروبيين إلى نمو ذاتي، في التنظيمات الشيوعية. وهو ماقاد إلى نشوء تنظيمات ماركسية موازية للشيوعيين، كـ»منظمة العمل الشيوعي» في لبنان، و»رابطة العمل الشيوعي» في سوريا.
لم يكن هنا العامل الذاتي عند الشيوعيين قادراً على استيعاب هذه الهجرة، لذلك أدّى هذا إلى بناء بيوت موازية ولكن في الاتجاه الماركسي نفسه. وهو ما يدلُّ على تخلخل البناء الشيوعي الذاتي. فيما رأينا «الإخوان المسلمين» بعد خروجهم من السجن عام 1971 يستوعبون في مصر 1973- 1975 شباب «الاتجاه الإسلامي الجديد»، في الجامعات ويستوعبون «اتجاه سيد قطب»، الذي تنافر معهم في السجن، ما دفع حسن الهضيبي للردّ على سيد قطب في كتاب «دعاة لا قضاة»، عام 1969.
كان هذا التخلخل بادياً في السبعينيات عند الشيوعيين العرب بشكل عام، مع بداية موجة المدّ الإسلامي، لو لم يكن هناك أحزاب نمت بالسبعينيات، مثل «الحزب الشيوعي اللبناني»، في ظرف تنامي اليسار اللبناني أمام اليمين الكتائبي _ الشمعوني، وفي ظل الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. وفي الثمانينيات، كانت هناك حالة جزرٍ عند جميع الشيوعيين العرب. وقد كاد التفكك السوفياتي أن يقود إلى الموت التنظيمي _ السياسي، وهو ما تفادته العديد من الأحزاب الشيوعية العربية. فيما هناك أحزاب شيوعية في تونس، وفلسطين، قد تخلّت عن الماركسية وعن اسمها الشيوعي، ولبست لبوساً أيديولوجياً _ سياسياً _ تنظيمياً آخر. وهو ما كان، أيضاً، حال الكثير من الشيوعيين العرب الأفراد الذين تحولوا إلى «الليبرالية الجديدة».
خلال ربع قرن من بدء التفكك السوفياتي، لم تجرِ حتى الآن مراجعة جديّة عند الشيوعيين العرب للتجربة، من أجل استخلاص خلاصات فكرية _ سياسية _ تنظيمية جديدة. هناك ملامح منذ 3 تموز 2013، مع سقوط حكم «جماعة الإخوان المسلمين»، في القاهرة. وهي التي تبدأ بها الموجات الفكرية _ السياسية _ العربية، «الليبرالية» عام 1919 مع سعد زغلول، و»العروبية» في 23 تموز 1952، والمد الإسلامي المصري في النصف الأول من السبعينيات، على انتهاء موجة المدّ الإسلامي، وبداية الجزر في حركة هذا التيار الفكري _ السياسي _ التنظيمي.
هذا يمكن تلمسه من البصرة إلى الرباط، ومن حلب إلى عدن. هناك ملامح على بدء موجة يسارية عند العرب، يمكن أن تكون العدّة الفكرية _ السياسية _ التنظيمية الحالية للأحزاب، والحركات، والتنظيمات الشيوعية، والماركسية العربية غير مناسبة أو قادرة على استيعاب هذا المد اليساري الجديد، إذا لم تقم بنفضة ذاتية كبرى في بيوتها الداخلية.
* كاتب سوري