نحن اليوم في زمن وفرة البيانات، فطبيعة التطور التكنولوجي أتاحت للباحثين، منذ منتصف ستينيّات القرن الماضي، الانتقال بعملهم إلى مرحلة الترميز والبحث عن المتغيّرات الرياضيّة. ومن ثمّ جمع الأرقام، حتّى في أكثر المجالات بُعداً عن الرياضيّات. وفي ظلّ توفّر كلّ هذه الأرقام والمتغيّرات وتراكمها، تشكّلت قواعد بيانات في شتّى مجالات البحث العلمي، وأصبح من غير الممكن التوسّع في شرح واقع من دون الاستناد إليها.


ورغم أنّ الأرقام لا تكذب، كما يُقال، فإنّ هذا المنهج قد ينتج عن استعماله، في الكثير من الأحيان، تزوير للواقع. فوفرة البيانات تمنع المتابع العادي من التمحيص فيها، ودراستها بشكل شامل؛ فغير المتخصّص لا يملك الوقت لتحليل هذا الكمّ الهائل من البيانات المتوفّرة، أما المتخصّص فقادر، في ظلّ هذا الوضع، على التحكّم بدفق البيانات - كمّاً ونوعاً - ليصوّر الواقع الذي يريده.

من أهمّ وأبرز الأمثلة على إمكانيّة التلاعب بصورة الواقع، من خلال البيانات، هو القطاع المصرفيّ حول العالم. التعقيدات التي طرأت على هذا القطاع، وتعاملاته الماليّة، منذ بداية ثمانينيّات القرن المنصرم، فاقمت من صعوبة تبيان حقيقة تعاملات المصارف، إلا ما تختار ان تُفرج عنه من معلومات بشكل واضح، أو في حالة اهتمام جهات بحثيّة، باقتطاع الكثير من الوقت للتدقيق في دفق بيانات مصرف ما.

تكمن أهمّية المصارف في النظم الاقتصاديّة المُتّبعة اليوم، حتى الاشتراكيّة منها، بأنّها تجمع رأس المال المتراكم، وتعيد توجيهه بدفق متّسق نحو قطاعات داخليّة وخارجيّة (عبر القروض وصناديق الاستثمار)، ويختلف هذا الدفق بين بلد وآخر، باختلاف حجم الاقتصاد فيه.

من التخلّف إلى المعجزة رقم واحد... قرن ألمانيا

لعبت المصارف الألمانية الدور الأساسي في نقل بروسيا بداية، ومن ثمّ الأشكال السياسيّة المختلفة للاتحاد الألمانيّ (حتّى تكوين الإمبراطوريّة الألمانيّة عام 1870)، من دولة زراعيّة فقيرة مع بدايات القرن التاسع عشر، إلى دولة صناعيّة مع انتصافه. وبحلول العقد التاسع من ذلك القرن، كانت ألمانيا تنافس بريطانيا على صدارة تصنيف الدول الصناعيّة، من حيث نوع الصناعات والسلع وكمّها.

يصطلح الكثير من المؤرّخين على تسمية هذه النّقلة بالمعجزة الاقتصاديّة الأولى (وهو اصطلاح حديث وبمفعول رجعي نسبة لما سُمّي بالمعجزة الاقتصاديّة الألمانيّة، في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي)، لأنّ ألمانيا كانت متخلّفة بكلّ المقاييس حين مقارنتها بجاراتها بلجيكا وفرنسا وبريطانيا.



حدّدت

المصارف اللبنانيّة هدفها: مراكمة الأرباح بجشع لا

نظير له



وعلى العكس من بريطانيا وفرنسا، لم تكن ألمانيا تملك مصدر دخل من النهب الاستعماري لتراكم منه فائضاً من رأس المال، لاستخدامه في تمويل عمليّة التحديث الصّناعي. فبدأت المقاطعات الألمانيّة المختلفة بإنشاء مصارف بأحجام صغيرة لإيداعات الفلاحين. وخلال عقدين من الزمن، توسّع القطاع ليشمل المصارف التجاريّة، ومن ثمّ الاستثماريّة. ومع انتصاف القرن، بدأت المصارف الشاملة بالظهور. هذه المصارف أعادت توجيه رأس المال الألماني نحو الصناعات بشكل مكثّف.

استلهم الاقتصاديّ الأميركي – الأوكراني، غيرشينكرون، نموذجاً اقتصاديّاً (يخدم كدليل للدول المتخلّفة عن محيطها للّحاق بها) من تحليله لعمليّة تحويل الاقتصاد الألماني من زراعيّ إلى صناعيّ... سماه «نموذج التخلّف». ورأى أنّ اللبنة الأولى لهذا النموذج هي وجود مؤسّسات متخصّصة تعيد توجيه رأسَي المال المادّي والبشريّ إلى الصناعات المختلفة في الاقتصاد. واتخذ من المصارف الألمانيّة في القرن التاسع عشر مثالاً ناجحاً لهذا النوع من المؤسسات.

لقد أوجدت المصارف الألمانية طرقاً لتوفير الاحتياجات المالية للشركات والمؤسسات من خلال قروض قصيرة الأجل، أو تمويل الديون طويلة الأجل، أو دعم إصدارات السندات والأسهم. وكذلك دخلت المصارف شريكاً في المؤسسات الصناعيّة التي موّلتها وحوّلتها إلى شركات مساهمة، فساعدت السياسات المصرفية الألمانية الشركات الناشئة على التطور والازدهار، وعزّزت قدرتها على المنافسة. كما ساهمت بالقيام بالاستثمارات اللازمة للاستفادة من أساليب جديدة في صناعات الصلب، والكيماويات، والصناعات الكهربائية.

تمكّنت المصارف الألمانيّة، من خلال سياساتها، من توفير رأس المال الكافي لتحديث اقتصاد البلاد في مدّة قياسيّة، وأخذت بعين الاعتبار مستوى تأخّر الاقتصاد الألمانيّ قياساً باقتصادات جيرانها في الغرب، وموّلت ألمانيا تطّورها برأس مال محلّي من الناتج الوطني الألماني.


لبنان التطابق في المصالح والتكافل


يُعدّ القطاع المصرفي اللبناني من بين أكبر القطاعات المصرفيّة في المنطقة، فقد بلغ مجموع موجوداته في نهاية عام 2015، بحسب بيان «جمعية المصارف اللبنانيّة السنوي»، 186 مليار دولار، بينما بلغت الودائع 155 ملياراً. ويساهم المقيمون في لبنان بنسبة 79% من مجموع الودائع، بينما يساهم لبنانيون وأجانب، من غير المقيمين، بالباقي.

ويُضاف إلى ذلك أنّ القطاع هو من بين الأضخم على الصعيد العالمي، إذا ما أُخذ بالحسبان حجمه نسبة للناتج المحلّي. فبحسب دراسة أصدرها «اتحاد المصارف العربيّة» بلغ حجم مجموع الودائع في القطاع المصرفيّ اللبناني 307%، نسبة لإجمالي الناتج المحلّي؛ وللمقارنة، مثلاً، النسبة في ألمانيا هي 110%، بينما تبلغ 80% في الولايات المتحدة الأميركية، و45% في السعودية، بحسب بيانات «صندوق النقد الدولي».

تُوظّف المصارف اللبنانيّة، اليوم، ما مجموعه 44 ملياراً فقط كقروض. وما يُقارب 27% من هذه القروض هي ديْن للقطاع الخاص. بينما يتوزّع باقي الإقراض على شراء سندات الخزينة، وشهادات الإيداع في مصرف لبنان. فحصّة المصارف اللبنانيّة من سندات الخزينة 48%، وتتّجه إلى التوسّع أكثر في الاستثمار، بشهادات الإيداع لدى مصرف لبنان.

وبحسب دراسة لـ«البنك الدولي»، بدأ الديْن اللبناني بالتراكم منذ عام 1992 بعدما قدّمت الحكومة الأولى للرئيس رفيق الحريري، خطّة عشريّة طموحة لإعادة الإعمار الشامل. واستندت الخطّة على سياستين رئيسيّتين، الأولى انفاق حكوميّ واسع، والثانية المحافظة على سعر صرف اللّيرة. وحين لم تفِ الدول الرّاعية لـ«الطائف» بوعودها، بدفع المساعدات الموعودة لإعادة الاعمار، قامت الحكومات الحريريّة بالاستدانة عبر سندات خزينة. ولمنع انهيار سعر صرف اللّيرة، بسبب هذه السياسات الماليّة، رُفعت الفوائد على سندات الخزينة إلى مستويات قياسيّة، وصلت عام 1996 إلى معدّل 36%.

على إثر هذه السّياسات، ارتفع الدين العام من 48% من إجماليّ الناتج المحلي عام 1992 إلى 178% عام 2002، من دون إعادة إعمار حقيقي. وفي عام 2004، فسّر أحد تقارير «صندوق النقد الدولي» «الاستقرار النقدي» بـ«التطابق في المصالح بين ثلاث مجموعات من اللاعبين، وهي الدولة والمصرف المركزي والقطاع المصرفي التجاري»، حيث أنّ هذه المجموعات كانت ترسم السياسات الماليّة للبلاد معاً. وأضاف التقرير أنّ العلاقة بينها «علاقة تكافل».


الفقر يضرب مرّتين


ترسم هذه البيانات، إذا حاولنا جمعها في إطار واحد، صورة قاتمة عن مجموعة بشريّة تتعرّض للإفقار مرّتين بشكل متزامن. فالشعب اللبنانيّ يملك رأس مال وطنيّ من الأضخم في العالم، نسبةً إلى عدد السّكان وحجم الاقتصاد. ولكنّه يُحرم من استثماره في تطوير اقتصاده، وتحويله إلى منتج لأنّ المصارف تعزف عن الإقراض المكثّف للقطاع الخاص، فيمنع ذلك من توسيع الدورة الاقتصاديّة واستحداث المزيد من فرص العمل للّبنانيين، وتحصل عملية الإفقار الأولى.

وسبب عزوف المصارف عن الإقراض للقطاع الخاص، هو إقراضها الدولة اللبنانيّة بفوائد تساهم بتحديدها، بشكل غير مباشر، عبر شراكتها للدولة، ومصرف لبنان في صياغة السياسات النقدية، فتحصل عملية الإفقار الثانيّة حين يتوجّب على اللبنانيين دفع هذا الدين وفوائده.

وبمقارنة بسيطة بين دور المصارف الألمانية في القرن التاسع عشر وبين دور المصارف اللبنانيّة، نجد أنّ ما تقوم به الأخيرة هو بمثابة حرب على كل أطياف الشعب اللّبناني، بالتواطؤ مع صنّاع السياستين النّقدية والماليّة في البلاد. فقد رسمت المصارف اللبنانيّة لنفسها هدفاً أساسياً هو مراكمة الأرباح بجشع لا نظير له، دون أن تتحمّل أي أعباء ومخاطر اقتصاديّة وطنيّة. وما لهفة هذه المصارف لتطبيق القانون الأميركيّ الجائر ضد شريحة كبيرة من الشعب اللبناني إلا دليل واضح للعيان على هذه الحرب.

* باحث لبناني