كنت أكتب خاتمة الفصل الأخير من كتابي «نصوص متوحشة... التكفير من سنّة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية»، وعلى وجه التحديد لحظة الانفجار كنت أحرر الجزء الخاص بمجزرة «كسروان جبيل». وقعت في 1303 م. صعد جنود المماليك الخمسون ألفاً إلى الجبال الوعرة المشرفة على بحر مدينة جبيل وجونية، وأعملوا بسيوفهم، هذا ما كتبه ابن تيمية بقلمه.
فيما كانت أرواح شهداء القديح ترتفع إلى السماء، كنت أتابع خطوات ابن تيمية وهي تتصاعَد إلى جبال كسروان وهو يحمل لافتة مشروعه الكبير «بالقتل جئناكم»، وكأنه كان يرتّل فتواه الشهيرة «أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون الخارجون عن السنّة والجماعة، المفارقون للشرعة والطاعة... من أهل الجبيل والجرد والكسروان».
كأنه يصقل حد سيوفهم بحاد كلماته، اقتل نفوسهم واقتلع شجرهم وخرب مساجدهم ومعمارهم «هؤلاء أحق بأخذ أموالهم وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر وتخريب العامر عند الحاجة إليه، فليس ذلك بأولى من قتل النفوس».
لم أر في مسجد علي ابن أبي طالب، في تلك اللحظة غير ابن تيمية يصرخ في عقل ذاك الشاب الانتحاري البائس، اقتلهم، لا تدع متفجراتك تستثني منهم مدبراً ولا جريحاً وذرية «وليس هؤلاء بمنزلة المتأولين الذين نادى فيهم علي بن أبي طالب يوم الجمل أنه لا يقتل مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يغنم لهم مال، ولا يسبي لهم ذريّة لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ، وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ».
لست أدري كيف جاءت الوقاحة لعبدالله الغذامي أن يبرئ لحظتها داعش وابن تيمية وأجهزة التحريض التي تعمل على نحو ممنهج منذ لحظة تبني الدولة خطاب ابن تيمية مرجعية دينية وسياسية مقدسة. كيف نطقت كل هذه القسوة الحاقدة الجافة في قلبه، لتخترع فاعلاً وهمياً، لم يكن في قلبه لحظتها غير صوت ابن تيمية: «هؤلاء خرجوا عن شريعة الله وسنته، وهم شر من التتار [إيران]».
«التحريض»، إنها كلمة واحدة تختصر كل شيء، «التحريض» يعطيك ما في 37 جزءاً من موسوعة فتاوى ابن تيمية، تمثّل هذه الموسوعة دستوراً للدولة، لكنه ليس الدستور الذي يعترف بجميع مواطنيه، بل هو الدستور الذي يحرض بالقتل ضد فئة من مواطنيه، ويُشهّر بهم ويستحقرهم ويغتصب حقهم في الحياة الكريمة. دستور «التحريض» يكفي وحده أن يكون مفخخة تفجر مسجد الإمام علي والقديح والقطيف والمنطقة الشرقية والجزيرة العربية والخليج، من دون أن ترسل إيران سيارات مفخخة أو 1٪ من يورانيومها المخصب بنسق «الغذامي» الثقافي.
لست أدري كيف سيكون اللقاء هناك بين ابن تيمية، والانتحاري، كيف سيدور الحوار حول شهادة ابن تيمية التي فخخت عقل هذا الانتحاري «وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياماً، ولم نجد في جبلهم مصحفاً، ولا فيهم قارئاً للقرآن»، لقد شاهد الانتحاري هؤلاء القوم وهم يصلّون، وربما شاهد في بعض شفاههم أثر صوم رجب وشعبان، وشاهد المصاحف قبل أن تحترق بجسده المفخخ بفتاوى ابن تيمية، ماذا سيقول لشيخه الكذّاب؟ هل سيقول له لقد حرضتني، وخدعتني كما تحرّض قنوات الفتنة شباب أهل السلف والجماعة وتخدعهم؟! ربما يربت على كتفه ويقول له لو كان «التحريض» نسقاً يا بني لكشف عنه «الغذامي».
* كاتب وناشط بحريني