«الفتنة» و «الحبْل» في العراق: عن كتاب بلغتيْن واعتذار بالإنكليزيّة فقط

  • 0
  • ض
  • ض

باتت كتابة القصص (القصيرة والطويلة) مُستسهَلة في العالم العربي. هذه باتت سمة من متطلّبات العمل الصحافي: ما إن يبدأ صحافي عمله في سن العشرين، حتى يأتي برواية وديوان شعر، وبيتيْن عتابا. كانت الكتابة عمليّة شاقّة في الماضي، وكان الكاتب يتمعّن فيما يكتب قبل الإصدار. الكاتب الأميركي الأسود، رالف أليسِن، كتب رواية «الرجل الخفي» الرائعة، وتوقّف عن الكتابة حتى مماته (نُشر له مخطوطة بعد وفاته، وكانت عبارة عن مخطوطة لأفكار وملاحظات ورؤوس أقلام ومقاطع).

كان الكاتب يتهيّب الكتابة قبل الخوض في غمارها. قد يعود ذلك بسبب وجود نقّاد أدبيّين صارمين آنذاك: كيف تكتب قصّة بعد أن تقرأ «الغربال» لميخائيل نعيمة، أو بعد أن تقرأ نقد عبّاس محمود العقّاد الأدبي، أو نقد مارون عبّود وغيرهم كثيرين.
النقد الأدبي، مثل غيره من عناوين الثقافة العربيّة، أُخضِع بالقوّة لسطوة النفط والغاز. سلالة دبيّ الحاكمة، مع الوليد بن طلال، تقرّر بالنيابة عن الأمّة برمّتها ذوقَها الأدبي، والفنّي، والموسيقي، والصحافي، وهي تحتكر منح الجوائز في كل المجالات. هي تصنع الأدباء، والشعراء، والمطربين، والراقصات، وما على الشعب إلا التصفيق. جوائز الصحافة في دبيّ، سنة بعد سنة، ليست إلّا منافسة بين جريدة خالد بن سلطان، وبين جريدة محمد بن سلمان. صفحة النقد الأدبي في الصحافة العربيّة مرتهنة حكماً لطغاة النفط والغاز. هل كان يمكن لعبد الرحمن منيف مثلاً أن يفوز بجائزة «بوكر» العربيّة؟ وهي الجائزة التي تصلح كي تكون كاريكاتوراً ساخراً عن منح الجوائز. سعدي يوسِف نُزعت عنه جائزة سلطان العويس، بعد أن أزعج السلالة الحاكمة في دولة الإمارات في نقده لزايد بن سلطان آل نهيان. نستطيع أن نقول إن شروط نشر الرواية، والترحيب بها، لا يتطلّب اليوم إلّا العضويّة في فريق أنظمة النفط (أي فريق ١٤ آذار على المستوى العربي). فكل ديوان شعر من عضو من المجموعة، وكل قصّة من عضو في المجموعة، وكل رقصة من المجموعة، وكل مسرحيّة (حتى لو كانت مسرحيّة كركلّا عن الشيخ زايد أو مسرحيّة أولاد منصور الرحباني عن شعر محمد بن راشد آل مكتوم) تحظى بالتنويه والتقدير و... الجوائز.


برأي الكاتب، الشعب العراقي مُصاب بالصداميّة والغباء معاً


طلع علينا كنعان مكيّة برواية اسمها «الفتنة» («الحبل» بالنسخة الإنكليزيّة). والكتاب موضوع بالإنكليزيّة، والترجمة هي حتماً ليست لمكيّة، كما أشار صحبي الحديدي في مقالة عن الكتاب في «القدس العربي» (قرأتُ النسخة العربيّة لأنها وصلتني مُقرصنة، والفضل في ذلك لجهود المُقرصنين والمقرصنات العرب —هؤلاء جنود الثقافة العربيّة المجهولون الذين يستحقّون منا كل تقدير وترحيب ـــ ولقد قارنت النسختيْن العربيّة والإنكليزيّة لأسباب سترد أدناه). لكن ما هذه القصّة؟ مَن الذي أقنع مكيّة بأن لديه ملكة القصّة، أو الشعر (يقول في قسم «الشكر» أنه تأثّر في كتابة القصّة بدوستويفسكي، وبشعر ناظم حكمت، بالإضافة إلى كبار في الأدب، غير العربي حكماً). لا، هو قال إن المشهد في المواجهة بين الراوي وبين صدّام مُقتبس من فصل في «الأخوة كرمازوف»، وكان جاداً. والمشهد المذكور يذكّر بـ»الأخوة كرمازوف»، بقدر ما يُذكّر غناء شعبان عبد الرحيم بغناء أم كلثوم. للكاتب موهبة قصصيّة وأدبية تقلّ عن موهبة صدّام والقذّافي الأدبيّة، على تدنّيها عند الإثنيْن. ومكيّة يكتب إنكليزيّة إنشائيّة جميلة، وإن شابت كتاباته بعد «جمهوريّة الخوف» التكرار والرتابة والاجترار المملّ.
لا يمكن أن أصف للقارئ\ة محتوى هذا الكتاب. هو ليس قصّة، وليس شعراً، ولا مقالة. هل هو عِظة سقيمة؟ هو مجموعة من المونولوجات المُتكرّرة، والتي لا تشدّ القارئ بخيط، ولو رفيع. لا يدفعك الكتاب إلى الاهتمام بأي من شخصيّات الكتاب على الإطلاق. يتحدّث الراوي عن صديقه، وعن عمّه، وعن أبيه، وعن أمّه، وعن جدّه، وأنتَ لا تكترث لأيًّ من هؤلاء أبداً. تفتقر الرواية إلى الحدّ الأدنى من مقوّمات الرواية. فلا الشخصيّات مرسومة أبعد من كاريكاتوريات لفرد من جيش المهدي، والتصوير التنميطي للشيعة في العراق. حسناً، أستطيع أن ألخّص لكم صفحات الكتاب الـ٣٦٩: الطاغية، الطاغية، الطاغية، ثم أضيف— بالإنكليزيّة — بْلا، بْلا، بْلا (أحصيت ورود كلمة «طاغية» في مئة صفحة من صفحات الكتاب بالنسخة الإنكليزيّة). أذكر ما كان حنّا بطاطو يقوله عن كتاب «المحنة العربيّة» لفؤاد عجمي بأنه —بالرغم من الأسلوب الإنشائي الأخّاذ— يفتقر إلى فكرة مبتكرة واحدة. أما الكتاب هذا فهو لا يتمتّع بالأسلوب الجميل (ولا حتّى باللغة الإنكليزيّة التي راجعتها من باب المقارنة لأن الكاتب وضع كتابه فيها)، ولا يحتوى على فكرة مبتكرة واحدة. يظنّ الكاتب أن القصّة هي عبارة عن خلق اسم لشخص وهمي، ثم تحشوه بالخطب الطويلة والعبارات الممجوجة، ولا ينقذ وقعَها على الأسماع صياغتها الأصليّة بالإنكليزية، مثل حكمته «الأفكار بطبيعتها عامة، أما الأشخاص فليسوا كذلك» (ص ٢٩٨). أو عندما يقول لنا «الخيانة كالكفر، كلمة قبيحة» (ص ١٨٦). هذه مثل الذي يكتب خواطر لا معنى، أو طعم لها، ظاناً أنه يعيد تجربة نيتشة في حكمه وأقواله. وفي مكان آخر، يصف شخصاً على أن عليه أمارات الطبقة الوسطى، بعلامة ارتدائه «لقميص أبيض» (ص ١٩٢). ثم لو أن الكاتب خفّف من الإشارات إلى أكل الرمّان. لعلّه بهذه الإشارات يُظهر معرفة عميقة بالمجتمع العراقي.
أشخاص «الرواية» ذوو بعد واحد تسطيحي، فلا نرى جوانب غير دينيّة أو غير طائفيّة لهم. هم خيال المستشرق عن الفرد العربي المسلم المُصاب بهوس الدين، ولا شيء غير الدين. ولا يحيد المؤلّف عن النمط الاستشراقي، فيصرّ على الاستشهاد الممجوج (والمألوف في كل كتابات الاستشراق) بالمثل «أنا وأخي على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب». يظنّ بعض المستشرقين وخبراء الإرهاب الغربيّين أن هذا المثّل يختصر كل السلوك السياسي، والاجتماعي العربي. لكن لو كان هذا المثل صحيحاً، فلماذا تسود الحروب الأهليّة والأخويّة في طول العالم العربي وعرضه (لقد أحسن حليم بركات في تفنيد ودحض هذه الأمثال المُفضّلة عند المُستشرقين في كتابه «المجتمع العربي المعاصر»، وذكّر بمثل عربي آخر: «الأقارب عقارب»).
والترجمة للكتاب هي حرفيّة وليست أدبيّة. لهذا قد تعصى على فهم القارئ العربي. فالعبارات الإنكليزيّة، (مثل «ذيولهم بين أرجلهم»، ص ٣١٦) تأتي مُترجمة حرفيّاً إلى العربيّة، فتفقد معناها الأصلي. وليس هناك من كلمة ترد في الكتاب (بعد كلمة «الطاغية»، طبعاً) إلاّ كلمة حواجز كونكريتيّة. لماذا لم يقلْ المُترجم\ة «حواجز خرسانيّة»، وهي تفي بالغرض؟ أو كلمة «مظهر» (ص ٢٨) لكلمة إنكليزيّة تعني المشهديّة أو «الفِرجة». أو عندما يقول «سيّارة سيدان» أنيقة. كلمة «سيدان» بالعربيّة لا تعني شيئاً. كان يمكن ان يقول «سيّارة أنيقة ذات أربعة أبواب». هذه بعض الأمثلة فقط.
والكاتب لا يجد مفارقة في روايته في الحديث (بلسان الراوي، العضو في جيش المهدي) عن «أولئك الذين جاؤوا مع دبّابات المحتل» (ص ٣٢). هنا سيتساءل الكاتب: كيف عاد المؤلّف إلى العراق؟ على دبّابات الأمم المتحدة؟ أم على حصان أتاه من علٍ؟ لنر رواية مكيّة نفسِه عندما يخاطب جمهوره المفضّل في الغرب-عندما يكون أكثر صراحة وصدقاً- وهو كتب عن انطباعاته الأولى في مجلّة «نيو ريبلك» (المعروفة آنذاك بتعصّبها الصهيوني وعنصريّتها ضد العرب، عندما كانت بإدارة مارتن بيريز)، وهو يقول إنه «وصل مع قوّات ميليشيا أحمد الشلبي، والتي كانت بإشراف القيادة المركزيّة الأميركيّة، حسب قوله هو». وفي الرواية الأولى يتحدّث مكيّة بصراحة عن دعوته لـ»اجتثاث البعث»، ثم يثني على القائد العسكري الأميركي (أوّل حاكم بأمره في العراق، وقبل بريمر)، جي غارنر، لأنه عندما اجتمع عراقيّون في حضرته لبحث مستقبل العراق، استمع إليهم (يا لتواضع المُحتلّ). والطريف أن أوّل انطباع لمكيّة عن العراق بعد تحريره تحدّث عن ضرورة المزاوجة بين الأمن الأميركي والديموقراطيّة في العراق (راجع «نيوريبلك»، ٥ آذار ٢٠٠٣).
لكن الكتاب يتحدّث عن المظلوميّة، لكن من منظور ضيّق جدّاً.


أشخاص «الرواية» ذوو
بعد واحد، فلا نرى جوانب غير دينيّة لهم
بين كل الضحايا الذين قُتلوا على يد الاحتلال الأميركي وأعوانه، والتي وفق القانون الدولي الصريح، يتحمّل الاحتلال الأميركي المسؤوليّة كاملة عنها، لم يجد مكيّة مَن يتعاطف معه إلّا عبد المجيد الخوئي. والحجّة التي يسوقها الكاتب ضد مَن يختلف معه في الرأي هي أن الشعب العراقي، لا بل العربي عموماً، هو مُصاب بالصداميّة والغباء معاً. وإلا كيف يمكن للنخبة الليبراليّة في العالم العربي أن تفسّر الهوّة بين ما تصبو إليه، وبين ما ينشده الشعب العربي؟ والتعميم يصيب كل العرب عنده، فيقول إن «أهل المنطقة» (ص ٥٠) العربيّة يسهل عليهم تصديق ما لا يمكن تصديقه (مثل مسؤوليّة الـ»موساد» عن أحداث ١١ أيلول، كأن نظريّة المؤامرة عن ذلك اليوم تقتصر على العرب فقط). لكن نظريّة المؤامرة عند مكيّة تصلح في جانب واحد فقط: عندما تكون تتحدّث عن ضلوع النظام الإيراني في أحداث وجرائم بما فيها محمد باقر الحكيم (ص ٦٧) (مع أنه كان موالياً للنظام الإيراني طيلة سنوات نشاطه السياسي).
ولا يتورّع الكاتب (بلسان الراوي المملّ) أن يذكر خبر «سرقة» الوثائق الرسميّة العراقيّة، خصوصاً أن دوره في هذا الشأن باسم «حفظ الذاكرة العراقيّة» معروف ومذمومٌ من قبل العراقيّين\ات. ويرد على لسان الراوي في القصّة وصف لـ»هيئة اجتثاث البعث»، على أنها شكّلت تكريس الممارسة الطائفيّة للمعارضة الشيعيّة الخارجيّة (ص ١١٩)— لكن مكيّة يزعم بالإنكليزية (ص ٣١٧) أنه دعم اجتثاث البعث قبل الحرب فقط، نسي أنها وردت أيضاً فيما كتبه في «نيو ريبلك» بعد الحرب. كما أن الكاتب يتحفّظ في كل ما يقوله عن الاحتلال الأميركي وجرائمه، كي لا يجرح شعور جنود الاحتلال والشعب الأميركي -جمهوره¬¬- لكنه يسبغ الأوصاف الشاملة (او الشموليّة، وهو الحساس للعقائد والأنظمة التوليتاريّة) على «المشروع العروبي الدموي كلّه» (ص ١٣٠) (هل هذا ينطبق على كل مَن فضّل الهويّة العربيّة على الهويّة الطائفيّة أو القبليّة أو العشائرية مثلاً؟) وطبعاً، يساهم الكاتب كعادته في مشروع مكافحة الشيوعيّة، فيقول على لسان عمّ الرواي، إن حب الإنسانيّة الشيوعيّ هي «فكرة أكثر خياليّة من فكرة الطاغية المقتصرة على الأمّة العربيّة» (ص ١٣٣). تشعر بهذا أن القارئ\ة سئِم من هذه الاستخدام المبتذل لوصف طاغية في كل صفحة، ويصبح الاستعمال طريق أقصر مِن، أو تعويض عن، غياب الفكرة أو الحبكة الروائيّة أو السرد المشوق.
أما الأغرب، في هذا الكتاب الباهت والرتيب، فيأتي في خاتمته، حيث يضمّن الكتاب (في نسخته العربيّة) اعتذاراً من نصف صفحة فقط، ويُخصّص في اعتذاره الشعب العراقي، ثم يُخصّص أكثر «الطائفة الشيعيّة». وليس اعتذار مكيّة نابع من دوره في التأجيج والتسويغ للحرب الأميركيّة الوحشيّة: لا هو يقول بصفاقة أنه لا يعتذر أبداً عن «مواقفي السياسيّة الداعمة لتحرير العراق» (ص ٣٦). لا، إن اعتذاره هو فقط عن دعمه السابق لما كان يُسمّى بـ»المعارضة العراقيّة» في الخارج. لكن هذا الكاتب هو مثل أسوأ أصناف الحكّام العرب، من أمثال الملك حسين الهاشمي وابنه من بعده، الذين يتحدّثون بلسانيْن، وفق هويّة الحضور. أما اعتذار الكاتب فهو للرجل الأبيض، ويمتدّ في كتابه بالإنكليزيّة على نحو ثلاثين صفحة (لقد لاحظ صبحي الحديدي ذلك أيضاً فيما كتبه في «القدس العربي»). ويقول مكيّة بالحرف بالنسخة الإنكليزيّة: «إن العراقيّين، لا الأميركيّين، هم المُحرّكون الأساسيّون لما حدث من أخطاء» (ص ٢٩٧، من النسخة الإنكليزيّة). لا، ويزعم الكاتب أنه كان من الذين شكّكوا في فكرة العراق بحد ذاتها قبل الغزو، هذا الذي كان قد وعد المحتل الأميركي في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض ان الشعب العراقي سيرحّب بالغزاة الأميركيّين بـ»الورود والحلوى». وهو يعترف بأنه لم يكتب كلمة عن أبو غريب، وكأن أبو غريب هو حدث عارض للغزو، والاحتلال الأميركي لا في صلبه، وركناً من أركانه. وبرّأ الكاتب الاحتلال حتى من جرائم الحكّام المحليّين، كأن العراق تحت الاحتلال كان يُسيِّر نفسه بنفسه (ص ٢٨٦-٢٨٧).
في اعتذاره للرجل الأبيض بالإنكليزية، يقول مكيّة كلاماً مغايراً (وكان مكيّة قد كتب في الصحف الأميركيّة شكراً جزيلاً باسم الشعب العراقي -الذي لم يفوّضه يوماً- لغزو العراق واحتلاله، كما أنه وصف القصف الأميركي على العراق بأن له وقع الموسيقى على أذنيه في الغربة، وهو اعترف في «نيو ريبلك») بأنه كان يتصل بالإدارة الأميركيّة بعد بدء الغزو كي يحثّ القوات الأميركيّة على قصف مبنى التلفزيون العراقي. يقول بالإنكليزية إن الاعتذار إذا توجّب يمكن أن يكون عنه بالنيابة عن الشعب العراقي، لما بدر عنه من نكران جميل لما فعلته «الولايات المتحدة من أجلهم» (ص ٢٩٩). هذه طبعاً لا ترد في النسخة العربيّة المليئة بالإشارات الدينيّة التبجيلية. والرجل الذي كان يجزم بالتحوّل الديموقراطي من رحم الغزو الأميركي، بات يزعم أنه لم يجزم بـ»حتميّة» التحوّل هذا (ص ٣٠٠). هذه هي المراجعة الذاتيّة التي قام بها مكيّة. لكن يقول بالإنكليزيّة، لا بالعربيّة، إنه «يقف برسوخ مع الحرب» الأميركيّة في عام ٢٠٠٣. وبديماغوجيّة لا تماثلها ديماغوجيّة، يقول إن موقفه من الغزو الأميركي يماثل موقف الشباب العربي، الذي ثار ضد الطغيان في ٢٠١١، كأن الشباب العربي هذا ثار طلباً للتدخّل العسكري الأميركي في المنطقة العربيّة. يقول إنه مذنب بالقدر الذي كان فيه الشباب العربي مذنب في انتفاضاته.
والأنكى أن المؤلّف ينزع نحو التحليل السطحي في كل تحليلاته السابقة والحاليّة، فهو الذي، في كتابه «القسوة والصمت» (وهو كتاب يُقرِّع فيه كل المثقّفين العرب لأنه وحده قارع نظام صدّام، حسب رأيه، مع أنه اختبأ لسنوات وراء أسماء مستعارة)، لام الثقافة العربيّة لأنها تزجر إخراج الريح من جسم الإنسان والتجشؤ العلني (ص ٤٢، من «القسوة والصمت»، لأن ذلك في رأيه ولّد ظاهرة صدّام). وهو وصف بالتفصيل ضحيّة لغزو صدّام للكويت: اختار فرداً في العائلة المالكة الكويتيّة، الذي شكا له من تضاعف رغبته الجنسيّة بسبب ضغط الغزو النفسي. ومكيّة ليس أميناً البتّة في الإشارة إلى كتابات غيره، فهو يستسهل تشويهها. وقد شوّه كل مواقف إدوار سعيد السياسيّة -أذكر أن سعيد اتصل بي بعد صدور الكتاب وكان حانقاً عن حق، وكان يريد ان يقاضيه بدعوى قدح وذم، لكنني عبّرت لسعيد عن خشيتي من استغلال الصهاينة للدعوى لو قامت- وهي لم تقم، كما أنه أساء عن قصد ترجمة مقطع من مقالة كمال أبو ديب «صرخة في المتاه»-في كتاب رياض نجيب الريّس، «عودة الاستعمار»، ص ١٤٧-١٤٨- ليجعل منه مؤيّداً لصدّام حسين. لم ينجُ من نقد مكيّة في الكتاب الأوّل إلا وضّاح شرارة وحازم صاغيّة والسفير السعودي في لندن.
والسطحيّة في التحليل تلاحق مكيّة في كل مواضيعه: هو (في النسخة الإنكليزيّة) يعترف بأن كتابه يدور، في معظمه، حول شخصيّة عبد المجيد الخوئي، لكنّه يُعلم القارئ بالسبب الوجيه. يقول إنه كان ووالده ومجموعة من الأصدقاء في مطعم إيراني في لندن، وكانت زجاجات الخمر تعلو الطاولة، دلالةً على المرونة الدينيّة للخوئي. وإذ بالنادل يخبرهم بأن الشخص الذي قام بدفع الفاتورة لم يكن إلاّ عبد المجيد الخوئي. دائما الـ»جنتلمان» (ص ٣١٠، من النسخة الإنكليزيّة، لا العربيّة). هذا هو سبب تقدير مكيّة للخوئي، على ما أخبر القارئ الغربي.
والكاتب يخبر القارئ الغربي بما لا يحظى به القارئ العربي. يخبر القارئ الغربي أن رواية شنق صدّام، في بداية الكتاب، هي صحيحة، لكن ظهور صدّام في التحقيق في آخر الكتاب (في القسم الثالث) هو من محض الخيال. وأن صدّام هذا هو أعلى ثقافة من الحقيقي. لكن صدّام المتخيّل لا يشبه صدّام الحقيقي في الكثير من وجوهه. وأمدّ المؤلّف صدّام بكم من الخطاب الطائفي المذهبي، الذي نعهده في شيوخ الوهّابيّة (كتب عامر محسن في «الأخبار» عن استعانة قوى الطائفيّة الخليجيّة الحاليّة بصدّام بعد موته لمعونتهم في حروبهم الطائفيّة). والمفارقة أن الكتاب يعجّ باللغة الطائفيّة المذهبيّة، من الجميع في الوسط الشيعي، الذي يركّز الكاتب عليه. ولا يذكر من الأطراف الإقليميّة والعالميّة الموغلة في المعركة الطائفيّة الدائرة في العراق، إلا النظام الإيراني وحده.
يبدو هذا الكتاب أقرب إلى تصفية حساب شخصيّة بين مكيّة وبين جوقة «البيت الشيعي»، هؤلاء الشيعة في مجلس الحكم المحلّي الذين جمعهم على أساس طائفي، أحمد الشلبي، والذي أدخل مكيّة إلى صف المعارضة العراقيّة. كل الويلات التي لحقت بالعراق هي من صنع هذا البيت الطائفي. طبعاً، يستحق هذا البيت الطائفي الكثير من اللوم والتقريع، لكن ألم يكن المؤلّف من الذين عملوا وكتبوا وخطبوا في الغرب تبخيراً له؟ ألم يكن هو في صف هذا البيت وحضر اجتماعات وورشات عمل بالنيابة عن عرّاب البيت، أحمد الشلبي؟ لكن السؤال الأعم: من جلب هذا الفريق إلى العراق؟ ومَن الذي وضعه في سدّة الواجهة الرديفة للاحتلال الأميركي؟ وهل كان نظام المحاصصة الطائفي إلا من صنع المُحتلّ الأميركي؟ وفقيه الاحتلال الأميركي المُفضّل، علي السيستاني (والذي يكنّ له المؤلّف شديد الإعجاب). هو أيضاً أعطى مباركته للنظام السياسي الذي فصّله الاحتلال على مقاسه ومقاس أنظمة الخليج (لم يدرِ في خلد المُحتلّ أن النظام الإيراني سيستفيد من نظام المحاصصة الطائفيّة أكثر من المُحتلّ وأدواته الخليجيّة، مما قلب ولاء الشلبي من أميركا إلى إيران في غضون سنة أو أقل).
لكن المؤلّف في النسخة الإنكليزيّة يحور ويدور كي يؤكّد للرجل الأبيض أن «الحرب الأهليّة والانهيار الكامل في العلاقات السنيّة-الشيعيّة لم يكن نتيجة حتميّة للحرب والاحتلال» (ص ٣١٦). أي أن الاحتلال، لو نعم بضيافة أفضل من الشعب العراقي، كان سينتج الخير والديموقراطيّة. هذا الكتاب لقي ترحيباً، كالعادة، في الإعلام الأميركي. وهذا الإعلام يُرحّب بكل ما يصدر عن مكيّة، خصوصاً أنه يقدّم للأميركي ما لا يشبع الأميركي منه، على ما كتب ألكسيس دو توكفيل في القرن التاسع عشر (في كتاب «الديمقراطيّة في أميركا») عن أن «الأميركي ينتظر من زائر البلاد أن يلهج بحمد هذه البلاد، ولو تمنّع لأمدّه الأميركي بالثناء عليها». والكاتب ينطبق عليه ما قاله لي ذات يوم محسن مهدي، في مكتبه في جامعة هارفرد عن فؤاد عجمي، قال إنه «لا مانع من نقد العرب، لكن النقد يصبح من طينة أخرى عندما يتمنّع الناقد العربي المُقيم في الغرب وبصرامة مُلفتة عن نقد القوى العظمى الأميركيّة التي تسيطر وتهيمن في العالم العربي». لكن هذا النقد الذي يُبرّئ الاحتلال الأميركي والإسرائيلي له منافعه، قد ينال مكيّة عليه دكتوراه فخريّة ثالثة من دولة العدوّ الإسرائيلي (بعد أن نال شهادتيْن من قبل، واحدة من جامعة تل أبيب وأخرى من الجامعة العبريّة).
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)

  • أوّل انطباع عن العراق بعد تحريره تحدّث عن ضرورة المزاوجة بين الأمن الأميركي والديموقراطيّة (أ ف ب)

    أوّل انطباع عن العراق بعد تحريره تحدّث عن ضرورة المزاوجة بين الأمن الأميركي والديموقراطيّة (أ ف ب) (أ ف ب )

0 تعليق

التعليقات