تصرّفت الدبلوماسية الروسية بخفة حين نسبت إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعد جلسة مباحثات مع الرئيس فلاديمير بوتين، موافقته، «دون تعديل»، على مبادرة السلام العربية التي أُقرت في القمة العربية في بيروت عام 2002. تبرير هذا الخطأ لم يكن مقبولاً أيضاً، إذ قيل بأن الضيف الإسرائيلي لم يعترض حين أعرب الرئيس الروسي عن موافقته الإجمالية على المبادرة المذكورة. في أمور كهذه، وفي أجواء زيارة ليست مبادرة السلام العربية على جدول أعمالها، لا يعني سكوت الضيف، أو عدم تعليقه، بأن ذلك «علامة الرضى». ربما تذرع من تسرَّع في التفسير وتعميم الخبر بأن نتنياهو ليس معروفاً بتهذيبه وأريحيته. على العكس من ذلك هو معروف بوقاحته وغروره وتطرفه، ما جعله يُقدم في مناسبة، غير بعيدة، على تحدي رئيس الولايات المتحدة الأميركية وعلى إحراجه: في ملابسات زيارته الى الولايات المتحدة (دون دعوة من قبل الإدارة) وفي مضمون الكلمة التي ألقاها أمام الكونغرس في محاولة منه لمنع إدارة أوباما من التوقيع على الاتفاق الدولي بشأن الملف النووي الإيراني في تموز من العام الماضي. لكن الأمر مختلف الآن، لأن مسألة بالغة التعقيد كمسألة الصراع العربي الصهيوني لا يمكن تناولها بهذا القدر من التبسيط، وبهذا الشكل العابر، ومع مثل هذا الضيف تحديداً!تكون الخفة أفدح إذا كان الفريق الدبلوماسي الروسي قد صدَّق مناورة الثنائي الإرهابي نتنياهو وليبرمان (وزير دفاعه الجديد) حين طمأنا، من خلال المناورة والخداع، بأنهما يسعيان إلى استئناف المفاوضات مع الطرف الفلسطيني استناداً إلى قاعدة «حل الدولتين». هما اضطُرا الى ذلك بسبب ما أثاره من الاستغراب والانزعاج التعديل الوزاري الأخير في الحكومة الإسرائيلية والذي اكتملت معه الحلقة الجهنمية للتطرف بانضمام رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» إلى الحكومة وزيراً للدفاع فيها (وهو أعلى منصب في الحكومة بعد منصب رئيسها).
ربما التسرع واستعجال جني ثمار ذات مغزى في المنطقة، سياسية أو اقتصادية (في مجال النفط والغاز وحقولهما القديمة أو الجديدة)، هما ما دفع الدبلوماسية والرئاسة الروسية إلى توطيد العلاقة مع الحكومة الصهيونية بعد ترويج «خبريات» من نوع «الصداقة» الخاصة التي تجمع بين الرئيس الروسي وكل من الإرهابيين نتنياهو وليبرمان (وهذا الأخير أحد المهاجرين من جمهورية مولدافيا السوفياتية السابقة). إذا كان الأمر كذلك فهذه «غلطة الشاطر»! لقد اكتسبت الدبلوماسية الروسية التي يقودها وزير الخارجية سيرغي لافروف، الإعجاب بسبب نجاحات حققتها في غير حقل من حقول الأزمات والصراعات. اتسمت السياسات الروسية، برعاية الرئيس بوتين وإدارة الوزير لافروف، بالكثير من المثابرة والإصرار والحزم. في أكثر من ملف وأزمة، برز الدبلوماسي الروسي الأول (وزير الخارجية منذ 1904) بوصفه الأكثر خبرة والأكثر دينامية. شكَّل مع نظيره الوزير الأميركي جون كيري ثنائياً مهماً وكان هو فيه الأبرز وبلاده هي التي تكسب المزيد من النقاط: وعلى حساب الإدارة الأميركية أحياناً... تُوِّج كل ذلك بالتدخل العسكري الصاعق والناجح في الصراع السوري والذي كان لافروف أحد فرسانه الثلاثة إلى جانب الرئيس بوتين ووزير دفاعه...
لكن كل ذلك لا يبرر ما حصل منذ أيام في موسكو لجهة التودد للقيادة الإسرائيلية. إن إعادة الدبابة الإسرائيلية التي أُسرت من قبل القوات السورية، في معركة «السلطان يعقوب» عام 1982، ليست أمراً محبباً على كل المستويات. «الهديَّة»، أولاً، لا يجوز تحويلها إلى هدية مرة جديدة (لماذا «أفرجت» عنها الحكومة السورية أصلاً، وهي التي لا يخرج أحد من أسرها إلا في النادر (!)، ثم لماذا لم تعترض على إعادتها إلى سلطات العدو؟). وبشأن التذرع بأسباب «إنسانية» حيال عائلات الجنود الذين قتلوا في الدبابة المعتدية، ألم يكن مناسباً، مثلاً، لو طالب الطرف الروسي الطرف الإسرائيلي بالتفاتة، بالمقابل، تجاه الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، وهم بعشرات الآلاف ومنذ عشرات السنين؟! ثم أن القيادة الروسية قد باشرت التعويض (الذي ينطوي على اعتذار، وهذا أدهى) على المهاجرين الذين غادروا بلدهم روسيا والتحقوا بالكيان الصهيوني، وهم يدركون، كما كل العالم، بأن أرض فلسطين مغتصبة وشعبها مشرد. هم، إذاً، جاؤوا للمشاركة في جريمة ما زال يكافأُ مرتكبها حتى اليوم بسبب التآمر الغربي والتواطؤ والعجز العربيين... هذا فضلاً عن أن الخزينة الروسية ليست في أفضل حال لتقدم عشرات ملايين الدولارات سنوياً لمواطنين تخلوا عن وطنهم والتحقوا بدولة تطرد وتضطهد شعباً آخر، وتعتدي على جيرانها، وتتنكر لأبسط القوانين والشرائع الدولية...
تقاليد العدوان والتنكر للحقوق وتهديد مصالح وأراضي سيادة البلدان العربية، راسخة في سجل الحكومات الصهيونية. هذه الحكومة بقيادة نتنياهو تخطت الجميع في تطرفها واحتقارها للقرارات الدولية. هي عطَّلت المفاوضات. واصلت زرع المستوطنات بما يحول دون قيام دولة فلسطينية ولو على نصف الـ 22% من الأراضي المحددة في القرار 242. ويواصل الصهاينة سياسة الحصار والتجويع والاعتقالات والاغتيالات. وقد زادهم اندلاع الأزمات والحروب الأهلية في سوريا والعراق خصوصاً، تصعيداً وتطرفاً واستهتاراً. هم يعانون، بسبب ذلك، من انتقاد وشبه مقاطعة وعزلة تتوسع، سياسياً واقتصادياً، باستمرار.
في هذا التوقيت جاءت المبادرة «الودية» الروسية. وهي بدت، بسبب سوء تقدير الظرف وسوء التصرف، وكأنها للتخفيف من عزلة العدو وتبرير سياساته.
تخطئ القيادة الروسية إذا حسبت أنها باتت قادرة على إحداث تحوُّل جدي في السياسات الإسرائيلية عموماً، وفي سياسة حكومة نتنياهو خصوصاً. ليس في التوازنات الراهنة في المنطقة وعلى المستوى الدولي، ما يسمح بفرض اعتماد سياسات جديدة على إسرائيل وحكامها. ويكون الخطأ أكبر وأفدح إذا كان الطرف الروسي يستشعر أنه قادر على استثمار الضعف العربي لمصلحة إقرار تسوية ستقترن، في حال حصولها، باسم القيادة الروسية بشكل شبه حصري (طالما أن الإدارة الأميركية ذات علاقة سيئة بالفريق الإسرائيلي الحاكم حالياً، وطالما أن هذه الإدارة تمر بمرحلة انعدام دور ومبادرات بسبب اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية (8 تشرين الثاني القادم).
لقد فعلت القيادة الروسية الكثير لاستعادة بعض النفوذ السوفياتي السابق في أكثر من مكان في العالم. لم يحن أوان القطاف بعد، وخصوصاً في ملفات صعبة ومستعصية كالملف الفلسطيني. على هذه القيادة أن تواصل جهودها لتعزيز مواقعها وحضورها وعلاقاتها. عليها، بشكل خاص، معالجة الثغرات القاتلة في اقتصادها والذي يعتمد (لولا صناعة السلاح) على تصدير المواد الأولية كسائر البلدان المتخلفة اقتصادياً. روسيا بلد شاسع. شعبها ذو حضارة ومساهمات رائدة. هي من أغنى بلدان العالم بالثروات الطبيعية والبشرية العلمية. لا بد من إدارة ذلك بشكل فعّال للنهوض بالاقتصاد الروسي إلى المستوى الذي يجعل روسيا، بحق، دولة عظمى قادرة على الحضور والمنافسة وفرض الشراكة.
حتى ذلك التاريخ يبقى الدور العربي، المانع للاختلالات والمدافع عن المصالح العربية، هو الغائب الأكبر. لذلك ليس من المستبعد، أو المستغرب، أن تتكاثر الأغلاط والإساءات من العدو، أو حتى من الصديق في بعض الأحيان!
* كاتب وسياسي لبناني