غادرت العراق منذ أكثر من ثمانية عشر سنة. وقتها، كنت ما زلت طفلاً في المدرسة الابتدائية في زمن الحصار، ولم أعد الى العراق، جسدياً على الأقل، غير أن بحثي عنه ما زال مستمراً حتى هذه اللحظة، من خلال البحث عن التركات المادية والذكريات العائلية والشخصية. ولكن طول الزمان والبعد، يزيد الحنين إليه. العراق الذي أتحدث عنه هو عراق ذاكرتي، وليس بالضرورة هو عراق الحاضر، مع أن كلاهما عراق دمار وخراب (داخلياً كان بأيدي أبنائه وبناته وخارجياً بسبب الهجمات الإمبريالية)، رغم أن لي في «عراقي»، ذكريات جميلة سكنت بيتي وبيت جدي، قبل أن تستوطن في ذاكرتي وتبني لها بيوتاً أخرى هناك. لا أنوي أن أكشف عن «عراقي» في هذه السطور، فقد وجدت أن أفضل طريقة لكي أبقي ذكرياتي على قيد الحياة ـ وبالتالي ذاتي أيضاً ـ هو أن أحتفظ بها لنفسي ولمن شاطرتهم آلامي. فبذلك وببعض من الأنانية، أستطيع أن أحافظ على تلك الذاكرة من الدمار الفعلي والمجازي السائد في مجتمعاتنا، التي في كثير من الأحيان تعمل بكدّ على تدمير لحظات الأمان التي نصنعها لأنفسنا. في هذه اللحظة «عراقي» لي وحدي، ولكن، بالعودة إلى ذلك السؤال، كنت أظنّ في أثناء تنظيراتنا برفقة أقداح من القهوة ولفائف من السجائر في الغربة، أن اقترابنا من الوطن جغرافياً سيعالج بعض أعراض الحنين، أو يعمل كمخدِّرٍ له. فها هو هناك على بعد مئات من الأميال التي تبدو كخطوات قليلة. قريب لي، وقد تصلني رائحة هوائه في لحظة من اللحظات، وإن استحال عَلَيَّ عبور حدوده إلى الداخل. ولكني ـ لحسن الحظ ـ اكتشفت مدى سذاجة تفكيري، فحنيني إليه في تلك الزيارة القصيرة، فاض من جسدي وبدأ ينهمر كشلال فوق بشرتي الحنطية، التي تزيّنت على مر السنين والمسافات بذكرى ذلك العراق، على هيئة حروق وندوب، كنت قد نلت شرف اقتنائها أثناء مشاكساتي الطفولية في بغداد.
لا يزال الكثير من اللاجئين العراقيين يعيشون حالة انتظار

ولكن، في عمّان هناك عراق آخر أيضاً، وجدته في معارض الفنون التي طغى عليها الفن العراقي، وفي آهات الفنانين الهائمين في ذكرى عراقٍ أسرّهم وأبكاهم. وجدته في أشجار البرتقال و«الأنگيدنيا» التي تعيد ذكريات توبيخ جدك لك، أن تحافظ عليها جيداً «فليس لها غيرنا يرعاها ويحن عليها». كذلك، وجدته في لوحات أرقام السيارات من بغداد ونينوى (أو ما تبقى منها)، وفي المطاعم والمحلات وشركات السفريات العراقية. في النساء اللاجئات الذين «يبسطن» على مداخل تلك الأوطان العراقية المصطنعة، لبيع بعض الحاجات، التي هي بدورها تفوح بذكرى العراق (إن لم تكن من هناك)، كالليّف، وصابون الركي، وأعواد البخور الطولانية، والمهفات الخوص والفوانيس التي تعمل على النفط. هنّ أيضاً ما زلن يعشن في عراق قد صنعنه لأنفسهن من الذكريات. منظر تلك النسوة جعلني أتساءل عن ظروف معيشتهن وحياتهن. تُرى أين أو ما هو البيت؟ هذا إن كان لفكرة «البيت» وجود؟ أهي الكنيسة؟ أم مساكن الأقارب؟ أم غرفة نوم صغيرة يشغلنها ولا يسكنّ بها، فمن أين يأتي السكون مع كل هذا الألم؟ هنّ وما تبقى من عائلاتهن، كيف يقضين الليل وما يحمله معه من ذكريات وآهات لا مستمع لها؟ ذكريات وآهات لا تنادي علينا إلا عندما تدق ساعة النوم على وسادة الأرق. إنهنّ مثالٌ بسيط وجزئي من معاناة أكبر، في الحقيقة، لا مفر لنا من العراق الذي تركناه «وكلٌ يبكي على ذكراه». فلا زال الكثير من اللاجئين العراقيين يعيشون حالة انتظار غيّمت على حياتهم، وكل مرحلة انتظار يتبعها انتظار آخر، و«غودو» لا مرأى له ولا حتى رسول. أذكر جيداً مشهد اصطفاف اللاجئين العراقيين في مطار عالية الدولي، وهم يحملون أكياس «منظمة الهجرة الدولية»، مستعدّين لكتابة شطر جديد من «أبوذية» (نوع من الشعر الشعبي العراقي) الغربة والتغريب. وجوههم خليط ما بين الحماس والفرح، وبين الحزن والخوف. حماس وفرح لأن الحظ ـ الجيد في هذه اللحظات ـ قد حالفهم أخيراً في الهجرة إلى أوروبا أو أميركا الشمالية، التي يحلم بها الكثيرون. وحزن وخوف من القادم المجهول، من انتظار آخر، من أن تُكتب مع نهاية الشطر الأخير من تلك «الأبوذية» نهايتهم هم أيضاً.
قبل ذهابي إلى ذلك المطار، عائداً إلى مدينتي الصغيرة في كندا، بساعات، كنت قد طلبت من أقاربي اصطحابي إلى إحدى محلات التسجيلات العراقية، كانت زكّته لي إحدى الصديقات، لكي أشتري بعض التسجيلات لأغاني عراقية قديمة تغذّي حنيني وتزيد من إدماني على ذكرى الوطن الذي تركته وتصبّرني على فراق عراقي وهذا العراق الصغير. هنا أيضاً، تنوح ذكرى العراق في مسامعنا، وتوشمُ على قلوبنا، عبر أشجان «ياس خضر» وأحزان «قحطان العطار»، وفي أصداء اللهجات العراقية لمرتادي هذا المحل الصغير، التي تبعث فيك بعضاً من لحظات الدفء.
كل تلك البقايا العراقية، زادت من حنيني وأصّلت ذكرياتي أكثر، وليس هنالك عيب في ذلك. إذ يبدو أنه كلما اقتربنا من الوطن وتشتّت شعبه في أوطان مؤقتة أخرى، يزداد وجعنا على فراقه، كما يزداد وجع عاشق لمحبوبةٍ يراها أمام عينيه ولكنه يخشى مصارحتها بمشاعره. يقول، سنان أنطون، في كتابه «فهرس» ـ الجميل والمؤلم في نفس الوقت ـ إن «البشر ينقسمون إلى نوعين: أولئك الذين يهربون من الماضي وأولئك الذين يهربون إليه»، ويبدو أني، وكثير من العراقيين، من الصنف الثاني، فأنا لا أعرف من أنا، من غير ذكرياتي في العراق. ولكن، في خضمّ كل هذا الألم والحنين وسحن القلب، تبقى ألحان الراحل «طالب القره غولي» وهو يشدو في نشيده «راجعين»، تبعث الأمل في أن نرجع إلى وطننا أو إلى أوطان مصغّرة أخرى تذكرنا بالوطن الأول:
«راجعين... ولاتظنون بسوالف
ننسى حبكم. وغيركم نهوى ونوالف
حتى لو كل العمر مر وتعدّى
وانقضت أحلى السنين
وحتى لو كل الهوى وكل المودّة
اتروح ويروح الحنين
احنا بكل وقت... أهل الوفا وأهل المحبة
أنسينا كل شي، وما نسينا الوطن ووجوه الأحبة
راجعين... باچر نشد رحالنا»
* باحث في دراسات علم الإنسان في جامعة ويسترن ـ كندا