هل القدس هي "لنا"، أم هي عاصمةٌ محتلة لدولة عربية ــ مفترضة ــ شقيقة اسمها فلسطين؟ هذا ليس سؤالاً شكلياً والإجابة عنه لا تكون بشعارات المهرجانات من نمط "فلسطين العرب" أو "قدس المسلمين" (فهذه لا معنى قانونياً وسياسياً لها). هذا هو السؤال المحوري الذي يحدد علاقتنا بفلسطين اليوم ــ وأيضاً نظرتنا إلى أنفسنا، كعرب، وإلى بعضنا البعض. هل نحن نعتبر فلسطين جزءاً من ترابنا الوطني، إقليمٌ من سوريا العثمانية غزاه الاستيطان الأوروبي، وأننا نقاتل لاستعادة ما هو لنا، كحقٍّ طبيعيّ لا وزن فيه لرأي أميركا أو الأمم المتحدة أو القانون الدولي؟ أم أنّ أوطاننا الحالية نهائية ومشكلتنا المباشرة مع دولة إسرائيل تقتصر على حدودنا معها، وفلسطين هي بلدٌ جار يقبع شعبه تحت الاحتلال والعنصرية، نقدم له تضامننا كما يفعل أيّ شعبٍ آخر حول العالم؟ وينحصر دورنا، حينها، في العمل مع جوقة المجتمع الدولي، ومعارضي الصهيونية ومحبي الإنسانية، لـ"الضغط" على إسرائيل، و"فضحها" ومقاطعتها، وإجبارها ــ بالقانون والسياسة واللاعنف ــ على احترام الفلسطينيين وحقوقهم؟في كتابه "قضاءً، لا قدر"، يقول جوزيف سماحة عن التطبيع إنّه لا يجب أن يقارب فقط من زاوية لقاء مع مثقّف إسرائيلي أو حالة خرقٍ للمقاطعة التجارية، بل إنّ أصل التطبيع، ومقاومته، هو في منطلق النظرة إلى الصراع، في "تعريف الموقع الذي يطلّ منه طرفٌ على ثانٍ". المشكلة الأكبر في أوسلو، والقوانين والقرارات والأنظمة الأممية التي انبثقت منه، هي في أنه يعيد تعريف مفهوم القضية والحقوق، بل و"الشعب الفلسطيني" نفسه، بشكلٍ يجعل التطبيع مع الصهيونية بالنسبة إلى العربي نتيجة منطقية للقبول بهذه المفاهيم (ويستحيل الصراع "العربي ــ الإسرائيلي" صراعاً "فلسطينياً ــ إسرائيلياً").
المسألة هي أنه في وسعك أن تطبّع مع الصهيونية، وأن تتصالح مع وجودها، وأنت متضامنٌ بالكامل مع الشعب الفلسطيني ومتعاطفٌ مع حقوقه ومظلوميته (تماماً كحال العديد من المواطنين الإسرائيليين)، لا يوجد أي تناقض هنا؛ وهذا، اليوم، هو موقف الكثير من المثقفين العرب، ولسان كلّ من يريد قبولاً غربياً ويحلم بالاعتراف والتكريم. الخيار الحقيقي هو بين أن تتضامن مع الفلسطيني وبين أن تتماهى معه، بين أن ترى "القضية" كمسألة حقوق إنسان وأفراد أو أن تعاملها كقضية قومية، والخيار، بالمعنى الأعمق، هو بين أن نكون سنّة وشيعة وأبناء قبائل ودولٍ ناقصة، وبين أن نعتبر أنّ هذه الأرض، كلّها، هي أرضنا، لا فرق بين جبهة سوريا والعراق وفلسطين، وأننا سنحررها ونوحدها ونعيش فيها سوية.
خلال التسعينيات، روّج النظام العربي ومثقفوه، بحماسة، للخيار الأوّل على كلّ الأسئلة أعلاه. وصعد في الآن ذاته خطابٌ ليبرالي عن حقوق الفلسطينيين (في فلسطين وفي دول الطوق)، يركّز على تحسين ظروفهم القانونية والمعيشية، ويقرّع العرب الذين "يعشقون فلسطين ويكرهون الفلسطينيين"؛ وهو خطابٌ يبدو حميداً من الخارج، ولكنّه يتحوّل بسهولة إلى "حبّ الفلسطينيين ونسيان فلسطين"، وقد أسهم في تحويل القضية إلى قضية لاجئين وحقوق إقامة، وكرّس "الفلسطيني" في الموقع القانوني والسياسي الذي تضعه فيه الأمم المتحدة و"عملية السلام" (لم ينتبه هؤلاء، على ما يبدو، إلى أنّ الوضع الأفضل للفلسطينيين كأفراد، قانونياً ومعيشياً، كان دوماً في كنف دولٍ وأنظمة ــ كسوريا والعراق والجزائر ومصر الناصرية ــ اعتبرت القضية الفلسطينية واجباً قومياً ونادت بتحرير فلسطين). الكلام عن "عالمية" القضية الفلسطينية هو، في كثير من الحالات، ليس إلا ستاراً لنزع الطابع القومي عنها؛ والمقاطعة في جنوب أفريقيا، بالمناسبة، لم تنجح إلّا لأنّ قراراً سياسياً مركزياً من القوى العظمى قد صدر بعزل حكومة بريتوريا ومعاقبتها، وذاك كان لضرورات الحرب الباردة واستمالة دول الجنوب، فلم يكن في وسع الغرب أن يبدو ــ علناً ــ بمظهر من يدعم العنصرية البيضاء. وأميركا وحلفها، الذي لم يغيّر موقفه من الكيان الصهيوني حين كانت الحرب الباردة وحركة العالم الثالث في أوجها، وأكثر دول الكوكب تقف جبهةً واحدة في مقاطعة إسرائيل، لن ينقلب اليوم ضد السياسة الإسرائيلية ونحن في عصر الإمبراطورية.
المشكلة في هذا المنطق هي أنّه يتوافق بالكامل مع أسوأ نسخة من "العرفاتية" السياسية حيث، تحت راية "القرار الفلسطيني المستقل"، جرى اختزال القضية في الحركة الوطنية، ثم اختزال الشعب الفلسطيني في سكان الضفة وغزة (بمعنى أنّ إسرائيل، ما إن تعقد اتفاقاً مع هؤلاء الفلسطينيين، حتى تنتهي المسألة التاريخية)، وقد نصل إلى مرحلة تفاوض فيها إسرائيل مع عدّة "كيانات" و"جماعات" داخل فلسطين التاريخية (وهذه كانت من مخططات الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا: أن "تعيد تعريف" الصراع بحيث لا يكون بين "سودٍ" و"أوروبيين"، بل بين أوروبيين ومجموعة كبيرة من الأمم والإثنيات والقبائل، يتفاوض البيض ــ الأقلية الأكبر ــ مع كلٍّ منها على حدة).
من هذا المنظار، يصبح من الطبيعي أن نبرّر لتركيا تصالحها مع تل أبيب، ففلسطين ليست أرضها الوطنية، وعلاقة تركيا بإسرائيل من جهة وبفلسطين من جهةٍ أخرى هي، بالمعنى القانوني والفلسفي، علاقة بين متساويين، تعترف بهما سوية وتوازِن بينهما، وتركيا لم تدّع يوماً عداءً للصهيونية أو سعياً لتحرير فلسطين. وعلى عكس ما تروّج النخب العربية المتصالحة مع الصهيونية، فإنّ الكلام "الراديكالي" على تحرير فلسطين ليس "خطابياً" وسهلاً، ولا هو وسيلة للتكسّب، بل هو مكلفٌ للغاية ويزداد ندرةً ــ كان تكسّباً بالفعل أيام منظمة التحرير والتمويل النفطي، وكانوا كلّهم يلهجون به، وانظر أين أصبحوا اليوم (المعيار سهل: راقب إن كان المثقّف يجرؤ على دعم المقاومة المسلحة علناً، والمطالبة باسترجاع فلسطين، فكلّ ما هو دون ذلك يقوله أي مثقّف غربي ليبرالي).
غداً هو يوم القدس، وهي إحدى المناسبات القليلة الباقية حيث يمكن الناس أن يجهروا، بكلّ وضوحٍ وكأنّ "أوسلو" لم تحصل، بأن القدس لهم وفلسطين ستتحرر والصهيونية ستزول. قصّة "يوم القدس"، وتفاعل العرب مع المناسبة، تختصر إشكالية التحرير خلال العقود الماضية. ذهب السادات إلى القدس عام 1978 و، كالردّ الإلهي، جاءت ثورة الإمام الخميني بعد أشهر من حيث لم يتوقّع أحد. "يوم القدس" كان جزءاً من منظومة عقائدية رفع فيها الإمام تحرير فلسطين، لدى أتباعه، إلى مرتبة الواجب الديني: أنت لست مسلماً، وإيمانك ليس خالصاً، ولن ترى الجنّة إن نسيت القدس ولم تسعَ إلى تحريرها من المحتلّ. وماذا كان ردّ الفعل؟ حارب "النظام العربي" إيران، وثورتها وامتداداتها وأفكارها وحلفاءها، حرباً ضروساً بلا هوادة إلى اليوم، وقد كشف الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الاسرائيلية ــ للتوّ ــ أن السعودية كانت قد ساعدت إسرائيل بمعلومات استخبارية عن "حزب الله" خلال حرب عام 2006 (هذا حتى لا نتكلّم على قطاع "المثقفين" العرب، الذين أساءهم أن يختلط الوازع الديني بتحرير فلسطين ــ لأنّ من سيحرّرها لنا هي الألوية الأممية).
سيقول الإعلام العربي إنّ طهران تستخدم فلسطين والمقاومة كأداة، لـ"خداع" العرب والفلسطينيين، واللعب بمشاعرهم، وجعلهم يقفون في صفّها (انظر حولك ولاحظ كم هذه الاستراتيجية ناجحة!). ولكن، بسبب "يوم القدس"، كان المنادي يجول في مدينةٍ جنوب العراق منذ أيام، يحثّ الناس على الحضور بكثرةٍ والمشاركة من أجل فلسطين. هم يخوضون معركتهم وهمومهم تغرقهم وبلدهم في حرب وأبناؤهم على الجبهة، وعلى الطرف الآخر يقف بعض الفلسطينيين، والمنادي يقول، مستبقاً: ولو شارك بعضهم مع "داعش" اليوم، فإنّ فلسطين لنا، وهذه أرضنا وهذا واجبنا.
إن شئت أن لا تطبّع، حقيقةً، مع الصهيونيّة، فإنّك ستكون وحدك، وستكون ــ غالباً ــ "خارج القانون"، وأميركا ستحاربك قبل إسرائيل، وعليك أن تكون مستعدّاً لأخذ هذا المسار ودفع هذا الثمن، كما أنّ العدوّ الداخلي سيكون أكثر ضراوةً عليك من أسياده. المسألة ليست في أن تتضامن مع الفلسطينيين، بل كيف تتضامن معهم، والخيار العربي منقسمٌ بوضوحٍ اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، بين أناسٍ سقف طموحهم هو في أن يزوروا القدس والحرم يوماً ما، سيّاحاً مطمئنين وعلى جوازهم ختمٌ بالعبرية، وبين أناس آخرين يحلمون ويتدرّبون ويعملون حتى يسجدوا، يوماً، في باحة المسجد مع رفاقهم، وهم باللباس العسكري.