أي متابع للأبحاث العلمية المتعلقة بشؤون الغرب وتاريخه وارتباط ذلك بماضينا وحواضرنا، لا بد وأن يلاحظ غياباً، يبدو لي كاملاً، لأي أعمال أكاديمية بقلم بحاثة عرب، وهذا ينطبق، على نحو كبير، حتى على تلك المواضيع المتعلقة بتواريخنا القريبة منها والبعيدة.دراسة الغرب، من منظور علمي صارم، أمر ضروري لنا بسبب العلاقات الجدلية التي تربطنا به، وضرورة معرفة كيفية تفكيره والخلفيات الفكرية التي تقف وراء مختلف مواقفه، ماضياً وحاضراً. الغرب درس الشرق كي يستوعبه ومن ثم يسيطر عليه، وهو ما أفلح فيه إلى حد كبير، وها نحن نعاني نتائج إهمالنا الكامل لدراسة مستعمِرنا كي تسهل علينا مهمة التخلص من براثنه.
قناعتي بإهمالنا هذا، استمرت فترات طويلة خصوصاً عندما كنت متفرغاً للأبحاث العلمية في بريطانيا وألمانيا حيث أوضحت لي أعمالي عن خلفيات قضية فلسطين ومشروع الغرب الصهيوني ضرورة دراسة الغرب وتاريخه. عندها توضّح لي غياب، مطلق، لأي دراسة عربية عن الموضوع. هذا الأمر استمر إلى أن حظيت بالاطلاع على كتابات منير العكش، العالم السوري المولد، الفلسطيني بالاختيار، وفق كلماته هو، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، عن جوانب من تاريخ تلك البلاد، تساعدنا في فهم [لا] منطقية التفكير الغربي. ثمة كثير من المؤلفات عن تواريخ القارة الأميركية والولايات المتحدة، بديل لما هو سائد، لكن الجديد في مؤلفات الصديق منير العكش هو أنها تصدر باللغة العربية ما يسمح لأي قارئ مهتم الاطلاع على تكون العقل الأميركي وبالتالي في إدراك روح حكام تلك البلاد.
آخر أعمال الدكتور العكش مؤلف «دولة فلسطينية للهنود الحمر»، الصادر في بيروت في العام الماضي. لسنا هنا في صدد عرض هذا المؤلف الثمين، وإنما لفت الانتباه إلى أبجديات البحث العلمي الصارم، وهو أمر نادر لدى كثير من الكتاب العرب، خصوصاً في مسائل تثير الكثير من العواطف والحساسيات.
عندما أقرر اقتناء كتاب ما أو حتى قراءته، أجري مقارنة بين العنوان والمقدمة والاستنتاجات والمراجع المستخدمة فإن وجدتها مكملة لبعضها، أمضي قدماً في نيتي. وعندما نظرت بإمعان في مؤلفات الأستاذ الكبير، وآخرها تحديداً، تبيّن لي أهميته الكبرى لفهم عقلية واشنطن، الحاكمة، ومراكزها البحثية. ليس ثمة من عنوان أبلغ من الذي اختاره الكاتب حيث يلخص، على نحو جلي، جوهر صراعنا، نحن أهل بلاد الشام، مع العدو الصهيوني.
الكاتب يلخص في مؤلفه الثمين كيفية رؤية واشنطن لنفسها من خلال متابعة تاريخ نشوء الولايات المتحدة: أي استكشاف، فاستعمار، فاستعمار استيطاني قائم على مصادرة الأرض، فتطهير عرقي، ومن ثم [محاولة] إبادة. يلي ذلك كله مصادرة التاريخ واحتكار رواية ما جرى.
هذا تحديداً ما جرى في القارة الأميركية الشمالية، والجنوبية طبعاً، وهو تحديداً ما جرى في فلسطين. فابتداع مفهوم أو مصطلح «الأرض المقدسة» بكل ما يحمله من هوس فكري وعرقي وديني وعنصري، تبعه استكشاف... والبقية معروفة.
أهمية المؤلف لا تتأتى فقط من المطابقة، الصحيحة فعلاً، بين الحالتين الهندرية (أي الهنود الحمر) والفلسطينية، كما يوضح عنوانه، وإنما أيضاً من كون الكاتب اعتمد المصادر الأولية مرجعاً. فالقارئ يلاحظ ثراء العمل بنحو أربعين صفحة منه بالمراجع وعشرات الصفحات الإضافية التي تحوي هوامش وشروحاً للمتن، وأخيراً وليس آخراً، صور مجموعة من المخطوطات النادرة ذات العلاقة التي أجهد الكاتب نفسه في تحصيلها، بصعوبات لا يعرفها سوى البحاثة الجديين.
بعض الأمثلة: فقط من يلتزم بأصول البحث العلمي يدرك معنى حصول الكاتب على صورة غلاف كتاب «كنعان الإنغليزية الجديدة أو كنعان الجديدة» الصادر عام 1637. الكاتب أثرى المؤلف بصورة «ترخيص الملك جيمس الأول لشركة فرجينيا اللندنية بإنشاء مستعمرة جيمستاون عام 1606»؛ وصورة «محلمة فتح كنعان [الأميركية]» الصادرة عام 1785، وصورة لوحة «تأليه [جورج] واشنطن وقيامه من قبره في اليوم [!] الثالث وصعوده إلى السماوات» التي رسمها الفنان جيمس بارتلت عام 1803! ولوحة أخرى مماثلة أنجزها الفنان كونستانتينو بروميدي عام 1866، وتزين سقف قبة مبنى الكونغرس أو الكابيتول، والكثير غيرها، إضافة إلى مجموعة صور خرائط تاريخية ذات علاقة، تذكرنا على الفور بخرائط اتفاقيات قيادات ميليشيات مبنى المقاطعة في رام الله مع العدو الصهيوني، وكلها «وعود بوعود بوعود... إلخ».
الناشر، لو قدر حقاً مدى الجهد الذي بذلك الكاتب في تحصيلها، لأولى طباعة صور تلك المخطوطات والمصورات ما تستحقه من انتباه وتكريم.
المطابقة العلمية الدقيقة التي أجراها الكاتب بين اغتصاب الغرب القارة الأميركية [كنعان الجديدة] واغتصاب يهود الغرب من الأشكناز أرض فلسطين [كنعان التوراة] ما كان ممكناً تصديقها لولا دعم تحليلاته واستنتاجاتها، عند كل زاوية ومنعطف، بالشروح والمرجعيات المدعومة بالوثائق الأصلية، وهو، بكل أسف، أمر شبه غائب في الدراسات العربية. وهذا تحديداً ما يضع العالِم الكبير وكتاباته في مكان رفيع وخاص، لن يؤثر فيه كثيراً وسلباً إهمال الناشر النواحي الفنية الأساس في الطباعة.
شكراً لك أيها الصديق الراحل ممدوح عدوان على تقديمي لمنير العكش.
شكراً لك منير العكش، على هذا المؤلف الرفيع، وعلى كل مؤلفاتك السابقة، ونتطلع إلى قراءة المزيد منها، وأن نرى أجيالاً جديدة من البحاثة العرب يقتدون بمنهجيتك منارة، ويلتزمون التزامك العلمي الصارم في أعمالهم المستقبلية.