أطاحت مفاهيم الطبقية والعشائرية وعبثية الأحياء
للحظات تغيّر المكان. صار له وجه آخر على مسمع الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي. صار شيئاً غير إطلاق نار أو خلاف على أفضلية المرور أو بطولات حرّاس الزواريب. بجهدها وتعب العيون استطاعت هذه «المقدادية» أن تمسح صفحة وتعيد تكوين اللوحة على صورتها. لقد أشارت إلى البوصلة... إلى أنّ كلّ الأشياء ممكنة وأن لا استحالة في عبور الحواجز وتخطي العوائق.
لطالما حدّق علي شريعتي في عيون أطفال جنوب طهران، بفقهرهم، بتعاستهم، وبجوعهم ليرى أن عيونهم جميلة. لطالما ردّد: انظروا إلى عيونهم، إنّها جميلة. كان يكفيه في ذروة يأسه أن هذه العيون قد تحوّل أكثر الزورايب بؤساً إلى شيء يشبه تلك الأحداق السوداء التي تتوثّب إشعاعاً لا يمكن الشمس إلّا أن تلاقيه في منتصف الطريق. لقد تهاوت الصورة النمطية عن مجتمع لا يمكن أن ينتج إلّا ما يريدون له أن ينتج تحت عنوان واحد بائس من جملة العناوين المزورة التي تسيء إلى الإنسان على مرمى هذا الوطن الحزين. فمن هذا المكان سنواجههم بكوثر. سنقول لهم إنّ هذا الحرمان الذي لم يتوقف لحظة، رغم تغيير العهود وانقلاب الصور والشعارات، لن يقوى على قتل بذور الحياة، وهذه حقيقة وليست منظومة شعرية. فخلف هذا الحصار قلوب تنبض بآمال كثيرة وتعيد كل صباح بناء ما تحطّم من أحلامها، وتستعير من أوجاعها ألواناً هي ألوان قوس قزح. لقد قالت لنا كوثر إنّ باستطاعتنا أن نعيد تنظيم المكان، وإنّ الإيمان باختراق الزمان نحو عوالم أفضل ليس بالمحال. سنخرج من هذه الشرنقة ونسبح نحو بحار بعيدة. سنقصّ على أطفالنا حكايات غير حكايات الموت والعدمية. سنقول لهم إن هناك صبية في مكان ما بعيد من هذا العالم الموبوء بالقهر صار اسمها «مدام كوري»، غيّرت وجه الحقيقة الطبية وتغيّر معها وجه العالم.
سنقول لهم إنّ تلك البولندية البائسة التي لم يأخذها أحد بالاعتبار في شوارع باريس كانت تغسل الصحون في الحانات لتقتات، لتوفّر بضع فرنكات لتعينها على القيام بتجاربها الفيزيائية... وبأنّها نجحت، وبأنّها سقطت وماتت شهيدة تجاربها.
سنتلو على صغارنا نشيد الحياة وأنّ العنف ليس طريقاً. المشهد يتغيّر، وربّما من يرى أن المبالغة بالفرح هي ناتج صدمة غير أنّنا نحتاج لصدمة. لطالما حلمنا بمن يهزّ كياننا ويعيد ترتيب أوراقنا المبعثرة، ويقرأ علينا شيئاً مختلفاً يخرجنا عن رتابة مدن الزحمة والغبار.
* كاتب لبناني