مع تقرير تشيلكوت، من السهل أن ننزلق لمقاربة الجدل حول حرب العراق من وجهة النظر الغربية، وأن نستنسخ الخطاب واللغة والمعايير التي تستخدمها الصحافة البريطانية في محاسبة حكومتها، وخاصة أن النقد موجّه، ظاهراً، ضدّ الغزو الذي دمّر بلادنا وضدّ بطله توني بلير؛ فنُصاب ــ مع البريطانيين ــ بالدهشة والصدمة لأنّ بلير قد "كذب"، وأنّه قد تمّ "خداعنا"، ونشعر معهم بالأسى على حربٍ تبيّن أنها "لم تكن ضرورية". إلّا أنّ هنالك، في تحليل الموقف من هذه الزاوية "الرسمية"، إشكاليات ثلاث.أوّلاً وقبل كلّ شيء، لأنّ "الاعتراف" أو "الاعتذار"، لو افترضنا وقوعهما (والاثنان لم يحصلا، فالتقرير لم يحكم ــ مثلاً ــ بأن الحرب لم تكن قانونية)، ليس لهما أي قيمة اليوم ولن يغيّرا شيئاً. والاعترافات والكشوفات والمراجعات في النظام الغربي، تماماً كما وثائق الأرشيف، تخرج الى العلن، حصراً، حين لا تعود لها قيمة ومعنى. ما هو أهم، كما يشرح التقرير وخلاصاته، أن هذا "الاعتراف بالخطأ" لم يكن موجّهاً أساساً الى العراقيين، ولا هو يهدف الى تصحيح التاريخ والبحث في كيفية التعويض عليهم والتكفير عن الجرائم التي افتعلوها في حقّهم، بل إنّ همّ لجنة تشيلكوت تركّز على تصحيح "عملية صنع القرار" داخل السياسة البريطانية. و"أخطاء" بلير، التي تمّ إبرازها في التقرير، هي ذات طابعٍ إجرائي وسياسي داخلي (من نمط عدم الاستماع الى معلومات مخالفة، أو الانقياد خلف الإرادة الأميركية، أو تضليل الجمهور)؛ والهدف من هذا النقد، كما تقول خلاصات التقرير، هو "التحسّب" لمثل هذه "الهفوات" وتلافيها في المستقبل. بمعنى آخر، فإنّ المبتغى هو إعداد بريطانيا العظمى حتى تكون قوّة احتلال أكثر فعالية، وحتى يكون تدخّلها مدروساً أكثر في الحرب المقبلة. والجزء الوحيد من الخلاصات التنفيذية الذي لمّح الى مأساة العراق وأهله كان في انتقاد الحكومة، لأنّها لم تحصِ المدنيين العراقيين الذين قضوا خلال الحرب، أي إنها لا تملك، بكلمات أخرى، أدنى فكرة عن عدد العراقيين الذين قتلتهم.
ثانياً، من الناحية الأخلاقية والمعنوية، فإن الخطاب البريطاني "النقدي" حول الحرب اليوم، في الصحافة وفي السياسة، لا يقوم على مظلومية العراقيين بل، أساساً وقبل كلّ شيء، على "مظلومية" الـ179 جندياً بريطانياً الذين قتلوا في العراق خلال غزوهم البلد. هنا مصدر الفضيحة والغضبة والمطالبة بالمحاسبة، والـ179 جندياً يكونون دوماً في الصدارة، باعتبارهم "الضحية" الأساس لأخطاء بلير، قبل أن يُذكر القتلى العراقيون، كأنّهم عارضٌ جانبي أو "نتيجة غير مقصودة". هذا ينطبق حتّى على خطاب جيريمي كوربين في البرلمان الذي، على ما يبدو، نال إعجاب الكثير من "التقدميين" العرب. كوربين تحدّث مطوّلاً عن الـ179 جندياً، وعن لقائه بعائلاتهم، واستماعه الى شكواهم، كأساسٍ لحجّته، قبل أن يذكر "مئات آلاف العراقيين" الذين قتلهم الاجتياح وما بعده. على الهامش هنا، والسؤال صار مبرّراً: بصرف النظر عن شخصية كوربين أو بيرني ساندرز أو غيرهما، ما هو سرّ هذه الرغبة الجامحة، المَرَضية، لدى الكثير من أبناء الطبقة الوسطى في بلاد العرب، لإيجاد سياسيّ غربيّ "جيّد" حتّى يهيموا به ويعشقوه ويتعاملوا معه كأنه مرشحهم الخاص؟ هل هذا يعكس نظرتهم التفاؤلية الى النظام الغربي، وأنّه قد ينتج شيئاً جيّداً، والعائق، في رأيهم، هو في أن تأتي شخصية "آدمية" الى الحكم حتى تتغير بريطانيا أو أميركا وتصبح في صفّنا؟ هل هو سلوك من يتخيّل نفسه غربياً، فيشعر ــ عبر التأييد والتصفيق لانتخابات غيره ــ أنّه يعيش هذه "التجربة الديمقراطية" التي حُرم منها في بلاده، وأنّه ــ هكذا ــ "مواطنٌ عالمي" وله وزن؟ الأسباب متعددة بالطبع، ولكن هذا السلوك هو الذي جعل العديد من نخب العرب تستبشر، عن جهلٍ وسذاجة، بأمثال بلير وكلينتون وأوباما (في أوائل التسعينيات بالفعل، كتبت أقلامٌ "تقدمية ويسارية" وازنة في بلادنا، بتفاؤل، عن وصول "اليسار الجديد" الى الحكم في بريطانيا وأميركا وألمانيا، وكان تحليلاً رائجاً). وفي موضوع العراق، هل علينا أن نصفّق لكوربين وأن نمجّد، معه، غزاةً قتلوا عدداً لا يحصى من العراقيين (باعتراف الحكومة البريطانية)، وارتكبوا جرائم فظيعة، وأن نعتبرهم "ضحايا"؟ هل نحن بلا قيمةٍ وبلا كرامة الى هذه الدرجة، نتماهى مع قاتلنا لمجرّد أنّه اعترف بنا، وذكر مأساتنا في كلماتٍ عابرة؟
ثالثاً، فإنّ محور الجدال نفسه ("هل كانت هناك أسلحة دمار شامل في العراق") هو سؤالٌ مزيّف. ما هو الفرق بين أن يكون بلير كاذباً أو صادقاً، وهل قيام دولة كالعراق بتطوير أسلحةٍ من أيّ نوع يُعطي حقّاً أوتوماتيكياً لأميركا وبريطانيا بضربها واجتياحها؟ (فهذا هو المنطق المضمر في الشعور "بالصدمة" والخديعة). هذا خطاب الأغلبية الساحقة في الإعلام والمؤسسة البريطانيين، الذين دعموا الحرب ومارسوا البروباغاندا وشاركوا في الجريمة، وهم اليوم يتطهّرون تحت حجّة أنّهم "خدعوا"، وأنهم أيّدوا الغزو لأنّهم صدّقوا أنّ صدّام كان يطوّر الأسلحة البيولوجية داخل كرافانات سياحية (كأنّ ذلك يصنع أي فرق). في هذا السياق، فإنّ سلوك الصحافي والمثقف الذي، بعد أن ساهم في إحراق بلادنا، يريد اليوم أن يتبرّأ وأن يتطهّر حتّى يشعر، مجدداً، بالسعادة وبالرضا عن ذاته وأخلاقياته (ويفعل ذلك حين لم يعد الاعتراض أو الاعتراف يغيّر شيئاً) هو ــ حقيقةً ــ تمرينٌ في الحقارة، وليس في المراجعة التاريخية.
"أنا معك، مهما يكن" ليست مأخوذة من رسالة بين عاشقين، بل هي الجملة الشهيرة التي افتتح بها توني بلير مذكرة أرسلها الى جورج بوش عام 2002، في مرحلة التأسيس لحملة العراق. من الممكن الاستعاضة عن التقرير الطويل (أكثر من مليوني كلمة) بقراءة هذه المذكّرة، فهي تشرح كلّ شيء: أن بلير وبوش كانا يبحثان عن "حجة حرب" مثّلتها أسلحة الدمار الشامل، أنهما أعدّا لمسارٍ "يجبر" صدّام على دخول الحرب ويمنع إمكانية التفاوض، أنّ الحرب لم يكن لها علاقة بالدفاع عن النفس أو مصالح الشعب العراقي، بل هي جزءٌ من مشروعٍ لتشكيل المنطقة والهيمنة عليها. الجميل في المذكّرة هو بساطتها، الأهداف واضحة، المصالح واضحة، السؤال الوحيد هو كيف نصل الى ما نريد. لو حاول "تآمريّ" عربيّ من جيل الستينيات أن يزيّف نصّاً يوصّف كيف تجري "المؤامرة"، وكيف يتحكّم البيت الأبيض في مصائر الشعوب، لما خرج بسيناريو بهذا البرود والكلبيّة. على كلّ عربيّ تأمَّلَ خيراً بغزو أميركا أن يقرأ الرسالة ويبحث فيها عن شعاراته: لا ذكر لـ"الديمقراطية" (كان بلير يوصي، بدايةً، بديكتاتورية عسكرية انتقالية الى حين استقرار الوضع في العراق)، لا ذكر لـ"الحداثة"، لا ذكر لسنّة وشيعة، بل مجرّد مصالح وأهداف، جافّة، بدائية، عارية.
في المذكّرة، يقول بلير إنّ زعيماً عربيّاً قد ردّ، حين أُعلم بأن الحرب على العراق قادمة، "حسنٌ، فقط تأكّدوا من استخدام القوة القصوى". ضرب العراق كان جريمةً لها آباءٌ كثيرون، ولو كان الغربيّون يستذكرون الحرب كـ"ورطة" وخسارة للجند والمال، فإنّ لنا ذاكرةً مختلفةً تماماً، و"خسائرنا" ليست من النوع نفسه. إن كان البريطانيون يكفيهم الحداد على جنودهم و"الاعتراف بالخطأ" ونشر تقارير المراجعة، فإنّنا نكون فعلاً أناساً بلا قيمةٍ ولا كرامة إن لم نتذكّر جيّداً ما فعلوه بنا، ونطمح ــ وهو حقّنا ــ الى "اعتذارٍ" من نوعٍ آخر.