قصر الضيافة - دمشق 18 تموز 1958- السابعة مساء
تهللت أسارير وزير الداخلية العراقي العقيد عبد السلام عارف (1) وهو يسلّم بحرارة على الرئيس جمال عبد الناصر، قبل أن يخبره بفرح أنه جلب له من العراق هدية ستعجبه. وأخرج الرجل من جيبه علبة صغيرة ملفوفة بعناية، وناولها لمضيفه داعياً إياه أن يفتحها بنفسه. وبدا على وجه عبد الناصر شيء من الفضول والاهتمام بهذه الهدية التي يقدمها له الرجل الذي نفّذ انقلاباً ناجحاً في بغداد، قبل بضعة أيام، أطاح فيه بالنظام الملكي الهاشمي. وسرعان ما تحوّل فضول الرئيس تعجباً حين اكتشف أنّ العلبة محشوة بكمية من القطن، في داخلها. ثمّ ما لبثت دهشته أن تبدّلت فزعاً حين برز من تحت القطن إصبع بشري مقطوع. وأفلت عبد الناصر هذا «الشيء» من يده، وتلفت مندهشاً إلى ضيفه العراقي قائلاً: «إيه ده؟!». وزادت ابتسامة عبد السلام اتساعاً، وهو يجيب مخاطبه بزهو: «هذا كل اللي ظل من لِشّة (أشلاء جثة) عميل الاستعمار نوري السعيد من بعد ما سحله شعبنا العظيم في شوارع بغداد. وآني، يا سيادة الرئيس، وباسم كل العراقيين الشرفاء، ننطيك إصبع عدوك الخاين علشان تحتفظ بيه عندك للذكرى». لكن السرور المفترض لم يظهر على وجه الرئيس عبد الناصر، بل ظهرت عليه مظاهر اشمئزاز واضحة. وسرى الارتباك في ملامح العقيد عارف، وأحسّ أنه أوقع نفسه في موقف محرج، ولم يجد ما يقوله سوى جمل مرتبكة، من قبيل أنه يأسف إذا كان ما جلبه قد أزعج الرئيس... وأنه كان يظن أنّ ما آل إليه الخائن، سوف تسرّ عين عدوه اللدود، مثلما سُرّ الأخ عبد الحميد السرّاج (وزير الداخلية السوري في الجمهورية العربية المتحدة) بإصبع الوصي عبد الإله حينما قدّمه له هدية، قبل قليل... وصمت عبد الناصر برهة من الوقت، ثم نادى أحد مساعديه، وقال له بعصبية وقرف: «شيل البتاع ده، وادفنوه في القرافة».

كرّادة مريم - بغداد
14 تموز 1958 - الخامسة صباحاً

دلف المرافق الخاص إلى غرفة نوم نوري السعيد (رئيس الوزراء العراقي المخضرم)، وحاول ان يوقظه برفق قائلاً: «گوم يا باشا». فتح الباشا عينيه متضايقاً وسائلاً: «شكو؟!». وأجابه المرافق بنبرة قلقة: «سيدي، هواي جنود بدباباتهم وسلاحهم مالين الشوارع. وبالراديو يحچون عن انقلاب عسكري». نهض الباشا من سريره، وفتح جهاز راديو كبيراً في غرفته. كانت الإذاعة تبث نشيد «الله أكبر فوق كيد المعتدي». وبدا على الباشا القلق فلم يكن من عادة إذاعة بغداد أن تبث هذا النشيد المصري الخاص بحرب السويس التي انحازت فيها حكومة العراق إلى صف حلفائها الإنكليز... هل يعقل أن يكون عبد الناصر قد دبّر محاولة انقلاب في بغداد؟! واستحضر الباشا فجأة كلمات قالها يوماً لرئيس وزراء بريطانيا أنطوني إيدن: «عليكم أن تقضوا بسرعة على عبد الناصر قبل فوات الأوان». استرق نوري السعيد النظر من نافذة غرفته إلى الطريق أمام بيته، فرأى بالفعل من بعيد عربات جند تسير باتجاه داره، وخطر له أنّ أولئك العساكر لم يأتوا إليه، إلا ليقبضوا عليه... يجب عليه إذاً أن يبتعد من هنا فوراً. لكنّ الوقت لم يعد يسعفه ليبدّل ملابسه... لا تهمّ الآن الثياب... أخرج من أحد الأدراج مسدساً ومبلغاً من النقود، ودسّهما في جيوب البيجاما. ثمّ هرول مسرعاً في اتجاه الحديقة الخلفية لداره المطلة على نهر دجلة.
جلس نوري السعيد في سيارة متخفياً في عباءة
نسائية
سوداء

على حافة النهر، رأى نوري السعيد صياداً في قاربه. ناداه ليحمله معه إلى الضفة الأخرى في الرصافة، فاستجاب له الصياد. فجأة، دوّت من جهة الدار فرقعة قنابل وأزيز رصاص... لقد وصل الجند بالفعل إلى هدفهم، لكنّ صيدهم كان قد أفلت للتو. نقد نوري السعيد الصياد مبلغاً سخياً من المال، وطلب منه أن يبتعد به مسافة في النهر. وزيادة في الحيطة، رقد الباشا في قاع البَلم، وخبّأ نفسه تحت شباك الصيد. وحين وصل به الصياد إلى مكان معزول، نزل نوري السعيد من الزورق الصغير. وحثّ خطاه إلى دار صديقه الدكتور صالح البصام القريبة، في كرّادة مريم. واستقبل البصام ضيفه الوافد عليه في ذلك الصباح الباكر، ولم يستطع أن يرفض مساعدته كرمى لعلاقة قديمة طيبة.
في داخل غرفة في بيت البصام، أخذ الباشا يستمع إلى الراديو، وقد تملكته العصبية تماماً! وحينما أعلن المذيع أنهم سيعيدون الآن بث البيان رقم واحد الصادر من القائد العام للقوات المسلحة الوطنية بالوكالة العقيد الركن عبد السلام محمد عارف؛ فإنّ الباشا تمتم كلمات حانقة: «سوّيتها يا زعطوط (أرعن). آني الغلطان اللي سامحتك، وما لحّقتك بجماعتك الانقلابيين أتباع رشيد الكيلاني». وعندما كان يتردد صوت عبد السلام عارف الجهوري في أرجاء الغرفة المغلقة، مبشراً الشعب الكريم «بتحريره من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصّبها الاستعمار»؛ فإنّ نوري السعيد جعل يتوعده قائلاً: «هسّة تشوف شلون نخلّيك جلافيط (فضلات لحم) يا فرهود» (صفة يطلقها البغداديون على الجندي العثماني الذي كان يسطو بسلاحه على الدكاكين حين تبطئ السلطات في دفع جرايته). ويستطرد العقيد عارف في خطبته للعراقيين، قائلاً لهم: «وعليه فإننا نوجه إليكم نداءنا للقيام بإخبار السلطات عن كل مفسد ومسيء وخائن لاستئصاله. ونطلب منكم أن تكونوا يداً واحدة للقضاء على هؤلاء والتخلص من شرّهم»؛ فيطبق الباشا جفنيه، وينفث من شفتيه كلمات مَثل عراقي قديم: «اللي ياكله العنز، يطلعه الدباغ. والصبر طيب، يا ابو ضرطة!». وتعلو نبرة صوت عارف من المذياع، قائلاً: «وإنّ الحكم يجب أن يعهد إلى حكومة تنبثق من الشعب. وهذا لا يتم إلا بتأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة. وعليه فإن الحكومة الوطنية تسمّى منذ الآن الجمهورية العراقية». ويتبادر إلى ذهن الباشا خاطر ملحّ... عليه أن يتصل بالقصر الملكي حيث تجتمع العائلة الهاشمية استعداداً لسفرها المزمع إلى تركيا، صبيحة ذلك اليوم. وينهض نوري السعيد إلى الهاتف كي يجري مكالمة لقصر الرحاب، لكنّ أحداً في القصر لا يجيب!

قصر الرحاب الملكي - منطقة الحارثية - بغداد
14 تموز 1958 - الخامسة والنصف صباحاً

استيقظ الملك الشاب فيصل الثاني مذعوراً على صوت رشقات رصاص ينهمر بالقرب من قصره، فخرج من غرفته يستوضح الأمر. وجد الخدم مرتبكين. وقيل له إن جنوداً احتلوا جسر الخر القريب، وهم الذين يطلقون الرصاص على قصر الرحاب. وتحلق حول الملك جدته نفيسة وخالته عابدية، وخرج خاله عبد الإله وزوجته هيام من غرفتهما للاستفسار عما يجري في الخارج. وفوجئ الجميع بأنّ الرشقات تزداد عنفاً، فهبطوا إلى الطابق الأرضي. كانت الإذاعة تبث بيانات عن نجاح الجيش العراقي في السيطرة على مرافق الدولة كلها، وعن تشكيل مجلس سيادة، وتأليف حكومة وطنية يترأسها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم (2)، وتعيين العقيد الركن عبد الوهاب الشواف (3) حاكماً عسكرياً عاماً للعراق. وكان عبد السلام عارف لا يزال يحث من الراديو الجماهير على الفتك بالفاسدين والخونة واستئصالهم، والزحف إلى قصر الرحاب وسحق من فيه. وأخذ الرعب يسري بين أفراد العائلة الهاشمية الحاكمة، وأحسوا أن خطراً داهماً يكاد يطبق عليهم. وأجرى الأمير عبد الإله (ولي العهد العراقي، والوصي السابق على ابن أخته الملك القاصر) مكالمة لرئيس هيئة الأركان الفريق محمد رفيق عارف، فردّ الأخير أنه سيرسل إلى الملك قوات موالية كي تفك الطوق عن قصره. وفشل عبد الإله في مكالمة اللواء غازي الداغستاني قائد الفرقة الثانية في الجيش العراقي، والتي ينتمي إليها عبد السلام عارف ومن معه من الجنود المتمردين، وبعد دقائق سمع من الإذاعة أنّ الداغستاني عُزل، وعيّن في مكانه العميد الركن ناظم الطبقجلي (4).
كان جنود سرية الحرس الملكي يحاولون صدّ المهاجمين الذين طوّقوا القصر، ولكنّ القصف ما لبث أن زادت حدته. وبدأ بعض المهاجمين يستهدفون الطابق العلوي بقذائف مدفع من عيار 106 ملم، ما أحدث حرائق ودخاناً وهرجاً ومرجاً في القصر. وتجمع الخدم المرعوبون حول أسيادهم المذعورين. وحاول أفراد العائلة الهاشمية أن يتجنبوا حرج التصنت عليهم من طرف خدّامهم، فبدأوا يتكلمون باللغة التركية لكي لا يفهمهم أحد. وساد بينهم ارتباك حول القرار المناسب الذي يجب أن يتخذوه لمواجهة هذه المصيبة. هل يأمرون حرّاس القصر بمقاتلة المهاجمين حتى يأتي المدد الذي وعد به رئيس الأركان؟! إنّ هذا خيار خطير، لا سيما وأنّ أفراد العائلة الملوكية محشورون في وسط هذه المعمعة، وسلامتهم الجسدية قد تتعرّض للخطر. وإذا لم يقاوموا، فهل يستسلمون للمتمرّدين؟! إنّ ذلك يعني أسرهم، وخسارتهم مُلك العراق! واستقر الرّأي عند القوم أن يطلبوا التفاوض، ليكسبوا الوقت. فإذا جاء المدد الموعود، كان ذلك هو المرتجى. وإذا لم تأت النجدات فإنهم سيقبلون بالخروج إلى المنفى. ومن هناك يدبرون للعودة إلى عرشهم، وسحق هذا الانقلاب... فإذَا ضمنوا سلامتهم الشخصية اليوم، وخرجوا من هذا الشرَك أحياء، فإنّ الشرعية ستبقى بأيديهم. والعالم الحرّ كله سيقف معهم، وحلفاؤهم في دول «ميثاق بغداد» سينصرونهم طبقاً لمعاهدات الحلف العسكرية. وإذاً، فليس هنالك من جدوى لسفك الدماء الآن، والمخاطرة بالقتال! وطلب الأمير عبد الإله من آمر لواء الحرس الملكي طه البامرني، إيقاف اطلاق النار من جانبهم، ومحاولة التفاوض قدر الإمكان مع المتمردين، قصد معرفة طلباتهم، وتأمين خروج موكب العائلة المالكة من قصر الرحاب بأمان.
كان قرار عدم القتال وطلب الخروج الآمن، قرارَ الأمير عبد الإله، الحاكم الفعلي في القصر الملكي. ولقد هيمنت على تفكيره، ذكريات تجربته السابقة في التعامل مع المتمردين عليه. ففي أواخر شهر نيسان 1941، نشب صدام بينه، لمّا كان وصياً على العرش، وبين أربعة ضباط كبار، كانوا يتحكمون في الجيش العراقي، ويسمّون «المربع الذهبي». وسبب الصدام أنّ الضباط انحازوا لفكرة التعاون مع ألمانيا النازية للخلاص من الإنكليز الذين تربطهم معاهدة سياسية مع العراق. ووجد الضباط في عبد الإله ونوري السعيد المواليين بشدة لبريطانيا، عقبة في طريقهم. وشاع في القصر أنّ ضباط الجيش يعدون العدّة لانقلاب ضد عبد الإله، فما كان من الأمير إلاّ أن هرب، في ذات تلك الليلة متخفياً في ملابس نسائية إلى منزل السفير الأميركي نابنشو. وهرّبه الأخير في سيارته إلى الحبّانية حيث التقى السفير البريطاني كورنواليس. وكانت رحلة هروب عبد الإله، من جنود جيشه وحواجزهم التي تبحث عنه في كل مكان، مذلة ومهينة. ولقد اضطر الأمير أحياناً، أن يستلقي بين المقاعد الخلفية والأمامية، تحت ساقي السفير نابنشو وزوجته، عند توقف السيارة الأميركية المسدلة الستائر، أمام بعض الحواجز العسكرية... لابأس! مضت تلك الأيام البائسة، وتدخلت جيوش البريطانيين ضد الانقلابيين وحكومتهم التي ترأسها رشيد عالي الكيلاني (5). وعاد عبد الإله مع دبابات الحلفاء الإنكليز منتصراً. ولم ينس الأمير أن يشنق الضباط الأربعة، ويعلق قائدهم صلاح الدين الصباغ على حائط وزارة الدفاع، أمام الملأ.
أفاق عبد الإله من ذكرياته على صوت العقيد طه البامرني آمر لواء الحرس الملكي في قصر الرحاب، يقول له بأنّ المتمردين يطلبون الآن من أفراد العائلة الملكية تسليم أنفسهم. وأردف البامرني قائلاً إنّ باستطاعة جنوده أن يقاوموا المتمردين، وأن يصمدوا في الدفاع عن القصر. لكنّ عبد الإله رفض الفكرة، وقال له: «ماكو لزوم للقتال. ما نريد الجنود يقتلوا بعضهم. دز لهم جندي يقول لهم إذا كانوا ما يريدونا، إحنا حاضرين نروح». قال البامرني: «سيدي، هم يريدوكم تخرجوا هسّه م القصر». وأجابه عبد الإله: «حاضرين نخرج، بس قول لهم يوقفوا الرمي، وانتو لا ترموا عليهم علشان ما تعطوهم حُجة».
قرابة الساعة الثامنة صباحاً أعلن الملك استسلامه. ودخل بعض الجنود المهاجمين إلى مكان اختباء الأسرة المالكة في حجرة الخدم وراء القصر، فأخرجوهم من مخبئهم تحت تهديد السلاح. خرج الملك أولاً، ووراءه عبد الإله محتضناً أمّه نفيسة التي رفعت مصحفاً فوق رأسها، ووراءهما هيام زوجة عبد الإله، ثم الأميرة عابدية التي تعلقت بأذيال ثوبها طفلة صغيرة اسمها غازية. وخرج مع أفراد الأسرة الملكية بعض الخدم. وتجمعوا كلهم في صف مستقيم، وسط الحديقة. عندها قام النقيب عبد الستار سبع العبوسي (6) الضابط في معسكر الوشّاش بفتح النار من سلاحه الرشّاش على المصطفين، ثمّ تبعه بعض الجنود الآخرين. فأصيب الملك برصاصتين في رأسه ورقبته، وأصيب عبد الاله في قلبه، وتوفيت على الفور الملكة نفيسة، والأميرة عابدية ومرافقتها الصغيرة، وجرحت الأميرة هيام في فخذها. وقتِل بعض عناصر الحرس الملكي، وبعض الخدم.
وتم نقل الجثث إلى دائرة الطب العدلي في المستشفى المدني في باب المعظم حيث ووريت جثث النساء في مقبرة مجاورة. ودفنت جثة الملك أول الأمر في حديقة مستشفى الرشيد العسكري، قبل أن يتم نقلها بسرية، ودفنها في المقبرة الملكية في الأعظمية. وأمّا جثة الأمير عبد الإله فقد وضعت في شاحنة مكشوفة، وطيف بها ليراها الناس. فتخطفتها أيادي الغوغاء وأمعنت فيها ركلاً وطعناً بالسكاكين حتى تم تمزيقها. وسحلت بعض أشلاء الأمير في الشوارع ورميت في نهر دجلة، وعلق ما بقي من جثته العارية، بعد أن نزع منها العضو التناسلي على باب وزارة الدفاع العراقية، في ذات المكان الذي أمر فيه عبد الإله يوماً بتعليق جثة العقيد صلاح الدين الصباغ أحد الضباط الأربعة في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941.

حيّ البتاوين - بغداد
15 تموز 1958 - الواحدة والنصف ظهراً

جلس نوري السعيد في سيارة متخفياً في عباءة نسائية سوداء، بين السيدة أم عبد الامير زوجة صديقه محمود الاسترابادي، وبين خادمتها. وكان يقود السيارة التي شقت طريقها من ضاحية الكاظمية على أطراف بغداد إلى حي البتاوين في العاصمة العراقية. عبد الرسول الاسترابادي ابن السيدة التي تجلس بجواره. وحسب نوري باشا السعيد أنّ خير من يساعده في ظروفه غير السعيدة ذلك اليوم، هو صديقه القديم الشيخ محمد العريبي كبير شيوخ عشيرة البو محمد بالعمارة، والتي تقع أراضيه الزراعية بجوار الحدود العراقية الايرانية. وظنّ نوري السعيد أنّ بإمكانه إذا وصل سالماً إلى هناك، أن يعبر الحدود نحو ايران. ثم إنه يمكنه أن يبحث مع صديقه الشاه، وأصدقائه في حلف بغداد طريقة يقلبون بها الطاولة على الانقلابيين.
استيقظ الملك الشاب فيصل الثاني مذعوراً
على صوت رصاص
ينهمر
بالقرب من قصره

ولقد ضحك الباشا، طوال اليوم السابق، ضحكات غمّ وهمّ، منذ أن علم من المذياع أنّ العميد عبد الكريم قاسم هو قائد الانقلاب العسكري. كان «كرّومي»، كما يحبّ الباشا أن يسميه، هو ربيبه ومن كان يظن أنه عينه وأذنه في الجيش. ويوم جاء تقرير سري من الملك حسين، قبل أيام قليلة، يحذر بأنّ عبد الكريم سيقوم بانقلاب؛ فإنّ الباشا كان يقهقه متهكماً من هذا السخف، ويقول إنّ كرّومي هو آخر شخص في العالم يمكن أن يخون النظام... تتمطى الآن ابتسامة قهر على شفتي نوري السعيد، وهو يستحضر صوت كرّومي الذي صاح من الإذاعة، هذا الصباح، عارضاً على الشعب جائزة مقدارها مئة ألف دينار عراقي لمن يدلي بمعلومات تؤدّي إلى القبض على عميل الإمبريالية الفار نوري السعيد... «كرّومي... يا كرّومي... حتى أنت يا كرّومي!».
ويفيق الباشا من كوابيس يقظته على صوت السيدة أم عبد الأمير، تنبهه إلى أنهم وصلوا إلى البتاوين، فهل يعرف الباشا أين تقع دار الشيخ العريبي. ويردّ الباشا أنه لا يعرف موقعها، ولكنّ الشيخ رجل مشهور، ولو سألنا أحد المارة فسوف يدلنا على منزله فوراً. ويسأل عبد الرسول بعض المترجلين فلا يجيبه أحد إلى مكان دار العريبي. ومن بعيد تظهر دورية للشرطة، فيرتعب ركاب السيارة من ظهورها. وتقترح السيدة أم عبد الأمير أنّ من الأفضل لهم أن يذهبوا الآن إلى دار السيد هاشم جعفر زوج ابنة محمود الاسترابادي زوجها، إذ إنّ بيته هنا في البتاوين. ويسألها الباشا هل تثقين في الرجل؟ فتجيب السيدة: نعم، وهاشم جعفر هو شقيق ضياء جعفر الوزير في حكومتك. عندئذ يشعر الباشا بشيء من الاطمئنان، فيقبل الذهاب إلى بيت هذا الصديق.
على أنّ المضيف هاشم جعفر لم يشعر بالراحة لمجيء ضيف خطر إلى بيته. لقد كان كل العراقيين يعرفون أن رأس نوري السعيد هو طلب حكومة الثورة. وهرع عمر ابن هاشم جعفر فجأة إلى خارج البيت. وانتبه الباشا إلى حركته المريبة، فقرر الرحيل عن هذا المنزل المريب فوراً. كان عمر يسعى إلى نيل مكافأة المئة ألف دينار التي رصدتها الحكومة لمن يدلها على نوري السعيد. ولقد قصد من فوره إلى دكان بجوار بيتهم، ليهاتف منه رقم وزارة الدفاع الذي كانت الإذاعة تعلنه لمن يريد أن يدلي بمعلومات عن «العميل الخائن الهارب». وسمع بعض من في المحل الشاب عمر يخبر من يكلمهم في الهاتف أنّ نوري السعيد موجود في بيتهم في البتاوين، فانتشر الخبر كالنار في المنطقة. وحينما كان الباشا يخرج مع مرافقته أم عبد الأمير من المنزل المشبوه، تحلق من حولهما أطفال الحي، وهم يصرخون «نوري في هذا البيت...». وارتبك الباشا، وأسقط في يده. وانتبه بعض الشبان أنّ المرأة المتلحفة بالعباءة النسوية، تلبس تحت ثيابها بيجاما رجالية. فحاولوا أن يكشفوا وجه هذه المرأة المريبة. عندها مدّ الباشا مسدسه من جيبه، وأطلق بضع طلقات ليرعبهم فيتركون سبيله. وهرع رجال الشرطة عند سماع دوي الرصاص إلى المكان. وأخذ نوري السعيد يجري في الأزقة هارباً، والناس تجري من ورائه ليقبضوا عليه. وتعب الباشا من الركض، وعرف أن مصيره قد قضي، فأطلق رصاصة على رأسه.
بعد نصف ساعة من مصرع الباشا، وصل من مقر وزارة الدفاع العراقية المرافق السابق لنوري السعيد الياور وصفي طاهر (7) مع مجموعة من الجنود، مبعوثاً من عبد الكريم قاسم للقبض على المطلوب الأول للثورة. وجد وصفي أن نوري السعيد قد مات، فأطلق على جثته سيلاً من الرصاص من رشاشه. وعندما احتجت السيدة أم عبد الأمير على هذا التمثيل بجثة ميت، التفت إليها وصفي وأرداها هي الأخرى قتيلة.
أخذ وصفي طاهر جثة نوري السعيد الى وزارة الدفاع لكي يراها عبد الكريم قاسم. فأمر هذا الأخير بدفنها في مقبرة باب المعظم. ومن المؤسف أنّ رجلاً من الذين دفنوا نوري السعيد أبلغ الناس بمكان القبر. فجاء بعض الرعاع في صباح اليوم التالي، ونبشوا الحفرة واستخرجوا الجثة، وربطوها بحبال، وقاموا بسحلها في شوارع بغداد. وبقي القوم يسحلون تلك الجثة حتى العصر. ومزق جسد الميت كل ممزق، وسط حالة من الهستيريا والسادية. وجاء شخص بمطرقة حديدية، وبدأ يهوى بها على رأس الجثة محاولاً تهشيمه. واشترك أحد العسكريين في هذه الفضيحة الجماعية، فأمر سائق الدبابة التي يركبها بأن يسحق أشلاء الجثة تحت جنازير دبابته. وفعلاً فإنّ جثة نوري السعيد سحقت تحت الدبابة حتى أصبحت كتلة لحم مفروم. وبعد سحق الجسد، تقدم رجل آخر وصبّ عليه البنزين وأشعله. وحينما خمدت النار، جمع بعض العراقيين ما تبقى من اللحم في كيس، وحملوه إلى الكاظمية حيث تم دفن «الجلافيط».

هوامش

(1) العقيد عبد السلام عارف، الرجل الثاني في القيادة العراقية، عُزل بعد أقل من شهرين من قيام ثورة 14 تموز 1958 التي اضطلع بتنفيذها. ثمّ ألقي القبض عليه في 4 تشرين الثاني 1958، وحُكم عليه بالإعدام في 5 شباط 1959، من قِبَل «محكمة الشعب» التي يرأسها فاضل المهداوي ابن خالة شريكه السابق عبد الكريم قاسم. وكانت التهمة التي وجهت لعارف هي التآمر على ثورة 14 تموز 1958. لكنّ عبد الكريم قاسم ما لبث أن خفف الحكم على صديقه القديم. قبل أن تدور الأيام، ويشارك عارف في خلع قاسم. وتقلد العقيد عبد السلام عارف منصب رئيس جمهورية العراق، وبقي في منصبه ذاك ثلاث سنوات. وفي آخر المطاف، انتهت حياة الرئيس عارف، في مساء يوم 13 نيسان 1966، حين ألقى بنفسه من الجو إلى الأرض، في محاولة فاشلة منه للإفلات من مروحيته التي كانت توشك على السقوط.

(2) الزعيم عبد الكريم قاسم، أول رئيس وزراء للعراق في العهد الجمهوري، انتهى قتيلاً بالرصاص على يد خصومه البعثيين، بعد الإطاحة بحكمه في انقلاب دموي، يوم 8 شباط 1963. وأعدم قاسم بعد يوم واحد من خسارته الحكم، في استوديو صغير في مقر التلفزيون العراقي، مع ابن خالته المهداوي ومجموعة قليلة من مرافقيه. وعرض الانقلابيون جثث قاسم ورفاقه المضرجة بالدماء على شاشة التلفزيون الرسمي. وأظهر الشريط الاخباري جندياً يمسك بشعر الزعيم الميت، ويبصق في وجهه.

(3) العقيد عبد الوهاب الشواف لم يستمر في منصبه كحاكم عسكري عام للعراق إلّا يوماً واحداً. وعزل الرجل في اليوم الثاني لثورة 14 تموز، وعيّن آمراً لحامية الموصل. لكنّ الشواف سرعان ما تمرّد على رفاقه، وأعلن في 8 آذار ثورة على حكم عبد الكريم قاسم. وسحق الأخير تمرد مدينة الموصل بواسطة الطيران الحربي. وجرح العقيد الشواف، وتمكن أعداؤه من الإجهاز عليه، وهو طريح الفراش في المستشفى. وانتقمت ميليشيات شيوعية مؤيدة للزعيم قاسم من متمردي الموصل بطرق شنيعة، فسحل أناس في الشوارع، واغتصبت نساء في الطرقات، وشنق مشتبه فيهم على أعمدة الكهرباء بعد محاكمات ميدانية أقيمت في الطرقات.

(4) العميد ناظم الطبقجلي أعدم في يوم 20 آب 1959، بتهمة «التآمر على الثورة»، وكان الرجل قد عيّن قائداً للفرقة الثانية في الجيش العراقي بعد الثورة. وقد تم تنفيذ الإعدام بالطبقجلي، في منطقة أم الطبول في بغداد، مع 12 من العسكريين السامين الذين كانوا أعضاء مؤسسين لتنظيم «الضباط الوطنيين» الذي خطط ونفذ ثورة 14 تموز 1958. وكان من أبرز من نفذ فيهم الإعدام، في ذلك اليوم، العقيد رفعت الحاج سري، المدير السابق للاستخبارات العسكرية. وكان هذا الضابط هو مؤسس تنظيم الضباط المذكور الذي صنع الثورة.

(5) رشيد عالي الكيلاني، رئيس الوزراء وقائد ثورة مايس (أيار) 1941 ضد الاحتلال البريطاني، والذي يعتبر بطلاً وطنياً في العراق. أعيد إليه الاعتبار بعد سقوط النظام الملكي، وقيام ثورة 14 تموز 1958. لكن بعد عام واحد فقط، ألقت الحكومة الثورية القبض عليه، واتهمته بمساندة متآمرين. وحكم على الكيلاني بالإعدام، في «محكمة الشعب» بدعوى خيانة الثورة. ثم خفف الحكم عليه، ونفي من العراق.

(6) النقيب عبد الستار العبوسي (قاتل العائلة المالكة في العراق) أنهى حياته بالانتحار عبر اطلاق النار على رأسه من مسدس، سنة 1970. وكان قد رقي بعد الثورة إلى رتبة عقيد.

(7) العقيد وصفي طاهر (مرافق نوري السعيد الخاص، ومطلق النار على جثته) أنهى حياته منتحراً بعد انقلاب 8 شباط 1963 الذي أطاح بحكم سيده عبد الكريم قاسم.
* كاتب عربي