الإجراء الذي اتخذه نيكولاس مادورو عبر تكليف وزير دفاعه بإدارة موارد البلاد الاقتصادية لا يعبّر فقط عن الثقة بالجيش كدرع وحيد لمنع انهيار البلاد اقتصادياً بل يدخل أيضاً في سياق مجابهة الميل المتعاظم لدى المعارضة اليمينية وأصحاب الرساميل لتوظيف الأزمة الاقتصادية في النيل من الحكم. في مواجهة هذه «الحرب» التي تشنّها المعارضة مستفيدةً من انهيار أسعار النفط ونفاد المواد الغذائية الأساسية من الأسواق اضطرّ مادورو ليس فقط إلى تكليف الجيش بإدارة الأزمة بل أيضاً إلى تمديد حالة الطوارئ الاقتصادية التي أعلنها للمرّة الأولى في كانون الثاني الماضي. وبموجب هذه الحالة تُمنح الحكومة إمكانية مصادرة ممتلكات القطاع الخاصّ، لضمان الحصول على السلع الأوّلية، بحيث يُصار إلى توزيعها لاحقاً على السكّان على نحو عادل. وهو ما يفرض بالضرورة رقابة لصيقة من جانب الجيش المكلّف بمهمّة الإشراف على التوزيع على الأسعار حتى لا تتكرّر عملية الاحتكار التي مارسها التجار في السابق لتأليب الناس على الحكومة وإظهارها مسؤولة وحدها عن نفاد السلع الأساسية. هذا الأمر لن يحلّ الأزمة الاقتصادية التي تتخذ أكثر فأكثر «طابعاً بنيوياً»، ولكنه على الأقلّ سيمنع المعارضة من إلقاء اللوم على الحكومة، وسيضعها أمام مسؤولياتها كمستفيد من الأزمة عبر استخدام شبكاتها التجارية والمالية في التضييق على السكّان ودفعهم إلى الاحتجاج على الحكومة وإثارة «أعمال الشغب» ضدّها.
طبيعة الاعتراض الحالي

حالياً يُقاد الاعتراض على سياسات الحكومة الاقتصادية من جانب فئات قريبة من الأثرياء والطبقات الوسطى العليا، وهذا يتعارض مع الطابع الموضوعي للأزمة. إذ إنّ المتأثر الفعلي بها ليس هؤلاء وإنما الطبقات المُهمّشة التي تَدين بالولاء في معظمها للحكومة اليسارية بقيادة مادورو. من هنا فإنّ الأزمة التي لها جذور حقيقية في الواقع لا تبدو مطابقة في مجراها الذي يحدث حالياً لأسبابها الفعلية، حيث يتعيّن على المتضرّر الفعلي منها أن يقود الاحتجاج وليس العكس، وإذا كان الضرر قد وقع على الفئات الأخرى الموالية للمعارضة فلأنّ السياسة هنا تدخّلت وساوت بين الفقراء والأقلّ فقراً، ولكن ليس على المستوى الطبقي وإنما في الموقف من إجراءات السلطة. فقبل أن يتدخّل الجيش لفرض الرقابة على الأسعار وإدارة عملية توزيع السلع بالتساوي على السكّان كانت المعارضة ضدّ أي تدخّل للدولة في الأزمة، لأنها مستفيدة من حالة الفوضى ومن غياب الرقابة على فوضى الأسعار أو على الاحتكار الذي يمارسه بعض التجار لمصلحتها.
يعبّر تدخّل الجيش عن
رغبة السلطة في حرمان المعارضة مواردَ قد تستفيد منها

الموقف من تدخّل الدولة

وبينما كانت الحكومة تسعى منذ كانون الثاني الماضي إلى محاولة احتواء الأزمة الاقتصادية عبر إجراءات محدّدة (مثل فرض حالة طوارئ اقتصادية) انشغلت المعارضة في المقابل بجمع التوقيعات اللازمة للاستفتاء المطالِب بإقالة مادورو من منصبه، في محاولة لإيهام محازبيها وجمهورها بأنّ حلّ المشكلة الاقتصادية إنما يبدأ بإقالة السلطة المتسببة بها. وحتى لو سلّمنا جدلاً بمسؤولية السلطة الحالية عن الأزمة فإن حلّها لا يكون بتسليم مقاليد الأمور بعد حدوث الفوضى لتحالف يميني من الطغم الرأسمالية والشركات الأجنبية، لأنّ وصول هؤلاء إلى السلطة سيحدّ من تدخّل الدولة في العملية الاقتصادية، وفي ظروف كالتي تمرّ بها فنزويلا فإنّ ذلك يعني ترك الأطراف المستفيدة من غياب الدولة تتصرّف كما تشاء، سواء لجهة حرمان الفقراء من نصيبهم من السلع والمواد الأساسية، أو لناحية السيطرة على أجهزة الدولة وجعلها تتدخّل اقتصادياً بمنحىً عكسي، أي لمصلحة الأثرياء والطغم المالية القريبة من المعارضة وأميركا. وهذا ما حاول مادورو استباقه عبر إيكال مهمّة إدارة الموارد الاقتصادية الأساسية في البلاد للجيش، لجهة أنه يحظى - تقريباً- بإجماع السكّان ولا يُعدّ تدخّله إذا ما جرى عنصراً انقسامياً، هذا إذا وافقت المعارضة أساساً على دوره الجديد، ولم ترَ فيه محاولةً من مادورو للجم اندفاعتها في السيطرة على موارد البلاد واقتصادها.

خاتمة

قد لا يكون تدخّل الجيش اقتصادياً عاملاً لمزيد من الانقسام في صفوف الفنزويليين ولكنه حتماً يعبّر عن رغبة السلطة اليسارية بقيادة مادورو في حرمان المعارضة من موارد قد تستفيد منها في معركتها الحالية ضدّها. وحين يحرم الجيش الذي يتبع في ولائه لمادورو المعارضة من إمكانية مادّية كهذه فإنه لا يستفيد منها كما قد يفعل إذا كان موالياً لليمين وإنما يضعها في تصرّف أكبر شريحة ممكنة من الفنزويليين بدلاً من أن تكون في خدمة طبقة واحدة منهم، وخصوصاً إذا كانت هذه الطبقة مسؤولة عن الأزمة الحالية ومستفيدة من استفحالها على حساب باقي الطبقات الأخرى. وبذلك لا يكون تدخّل الجيش قد صبّ لمصلحة أحد عملياً، على الرغم من كونه منحازاً بالفعل للسلطة الحالية التي تخوض صراعاً مع المعارضة على كيفية إدارة موارد البلاد. في موقعه الحالي المنحاز للسلطة التي تدير الأزمة الاقتصادية بمنهج يساري يؤدي الجيش الفنزويلي أكبر خدمة للبلاد والأجيال القادمة، فهو لا يحافظ على وحدتها ويمنع انقسامها فحسب، بل يضع ثروتها -وهذا هو الأهمّ- في خدمة أكبر شريحة ممكنة من الفنزويليين، على عكس منهج المعارضة في جعلها ملكاً للأقلية التي تتظاهر وتظن أنها تملك البلاد وما عليها.
* كاتب سوري