اللجوء بوصفه «شأناً أوروبياً»

  • 0
  • ض
  • ض

التعاطي مع قضية اللجوء كمسار منفصل عن التبعات السياسية المترتبة عليها في دول كألمانيا والسويد أفضى إلى سوء فهم للظاهرة، ولم يساعد في توضيح الصلة بين وصول أكثر من مليون لاجئ إلى أوروبا وصعود التيارات التي تعتبر وجودهم «عبئاً» على البلاد سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية.

في البداية عُزيَ الأمر إلى رغبة دول مثل ألمانيا في احتضان لاجئين هاربين من جحيم الحرب في سوريا والعراق، وساعدت النخب السورية تحديداً في تعميم هذا الوجه الإنسانوي للظاهرة. وحين تطوّر الأمر مع الزيادة الكبيرة في أعداد اللاجئين (لجهة التداخل الحاصل بين السوريين منهم والمهاجرين لأسباب اقتصادية من أفغانستان وباكستان وإيران و...الخ) وبروز ظاهرة الاعتداءات عليهم في أماكن تواجدهم وصل هذا «التأويل» إلى حائط مسدود، ولم يعد بالإمكان الاعتماد عليه لفهم ما يحدث مع اللاجئين، ولماذا تحولوا في ظرف أقلّ من سنة من إضافة للمجتمع الذي حلّوا ضيوفاً عليه إلى «عبء»، على الأقلّ في نظر الفئات الاجتماعية غير المُسيّسة، والتي تعدّ ذخيرة حقيقية لأحزاب اليمين المتطرف.

اللجوء كشأن داخلي

والحال أنهم لم يكونوا لا هذا ولا ذاك، فقدومهم ارتبط منذ البداية بالتحوّلات التي تخضع لها المجتمعات الأوروبية، وهذه التحولات غير متعلّقة فقط بالصراعات التي تحدث هنا. وإذا كانت ظواهر مثل «داعش» و«النصرة» وسواهما قد عزّزت من وجهة النظر السياسية المعادية للمهاجرين فلأنّ هذا النمو كان حاصلاً أصلاً، والتطوّر الإضافي الذي شهده لا يعني أنّ الظاهرة قد بدأت لتوّها أو نشأت بفعل عامل واحد هو «عودة التكفيريين إلى ديارهم».


يحدث الصراع على أرضية الهوية والخوف من تغيير نمط حياة السكّان

ثمّة عوامل أخرى لا تُؤخذ بعين الاعتبار عند التطرّق لموضوع الموقف من اللاجئين وتزايد أعدادهم، وهي إن لم تكن أهمّ من «الاسلاموفوبيا» فعلى الأقلّ تضع هذه الأخيرة في سياق يخرجها من الفهم الثقافوي الضيق لها. بالنسبة إلى أحزاب اليمين المتطرّف فإنّ عنصر الهوية يعتبر أساسياً في التحشيد ضدّ الأحزاب السياسية التي تتبنى قضية اللاجئين وتشجّع على اتخاذ مواقف ايجابية منها، ولكن هذا الأمر ينتهي عند الوصول إلى السلطة سواء كانت على مستوى بلدية أو ولاية أو مجلس نيابي. فحين يصل حزب من هذه الأحزاب المتطرفة إلى هناك تتراجع لديه حُكماً النزعة الشعبوية التي تحتاجها أيّ حملة للوصول إلى السلطة، ويبدأ في التعامل مع القضايا الخلافية على نحو براغماتي. وعلى الأرجح أنّ تعامله حينها مع قضية اللاجئين سيختلف جذرياً ليس لأنه متفق مع الطروحات التي تشجّع على الهجرة بل لكونه أصبح جزءاً من جهاز الدولة. وهذه الأخيرة حين تدعو لتسهيل قدوم اللاجئين في حقبة حكم معينة لا تفعل ذلك بالاستناد إلى دوافع حزبية بقدر ما تكون مدفوعة بسياسات اقتصادية أو اجتماعية همّها الأساس زيادة الإنتاجية وتحسين مكانة البلاد الاقتصادية. النزاع حول السلطة يتراجع هنا لمصلحة الحفاظ على مكانة الدولة ومصلحتها، وبتراجعه تتوارى قليلاً النزعات الثقافوية التي يُعتبر الموقف من اللاجئين في صلبها. حتى القواعد الاجتماعية المُحافظة التي ترى في موضوع اللجوء تهديداً لهويتها ونمط حياتها ستصبح مضطرة حين تصل الأحزاب الممثّلة لها إلى السلطة للتخلّي عن الهواجس الثقافوية لمصلحة نقاش التحدّيات الفعلية التي تواجهها في سياق مناهضتها للمهاجرين، وهي بالتأكيد ليست تحدّيات من النوع الذي يُطرح حالياً منها أو من أحزابها.

المجابَهة اقتصادية

حالياً يحدث الصراع على أرضية الهوية والخوف من تغيير نمط حياة السكّان الأصليين، وهذه هواجس موجودة لدى كلّ الفئات الاجتماعية في الغرب وليس فقط عند أولئك الذين يشكلون قواعد لأحزاب اليمين المتطرف. ولكن وجودها بهذا المقدار أو ذاك لا يعني أنها السبب الحقيقي وراء الاعتداءات الحاصلة الآن ضدّ المهاجرين، إذ بالإضافة إلى الهاجس الديموغرافي القابع وراء هذه المخاوف هنالك العوامل الاقتصادية التي يخفيها الساسة بهدف الإبقاء على الاستفادة الاقتصادية من وراء المهاجرين طيّ الكتمان. سياسة ميركل التي يُرجّح أن تعتمدها أحزاب أخرى مع بعض التعديلات هنا وهناك تقوم بالأساس على عوامل اقتصادية، بحيث يصبح الإدماج هو المدخَل لانخراط الكتلة البشرية اللاجئة في العملية الإنتاجية بعد أن تكون العوامل المجتمعية والسياسية المعطّلة لإدماجهم في المجتمع الألماني قد ذُلّلت. وحين يحصل ذلك فسيكون دخولهم إلى السوق على حساب الفئات الاجتماعية الألمانية العاملة التي ترفع الصوت الآن متذّرعة بعامل الهوية. وهي حين تحتجّ وتنقل هذا الاحتجاج إلى مرتبة العنصرية وخطاب الكراهية لا تفعل ذلك في مواجهة مجتمع اللاجئين فحسب، بل في مواجهة الأحزاب الحاكمة (وهي يمينية في معظمها) التي رتّبت لموضوع «الاستعاضة الاقتصادية»، واستعانت باليسار ليضفي على هذه الاستعاضة شرعية سياسية من خلال إبعاد قضية اللاجئين عن الصراع الداخلي السياسي والاقتصادي، وتقديمها إلى الرأي العام كقضية حقوق وحريات فحسب.

خاتمة

هكذا، يأخذ الصراع أبعاداً أخرى ولا يعود متعلقاً فقط بنضال أحزاب اليسار ويمين الوسط الحاكمة من أجل تحصيل حقوق اللاجئين ومنع أحزاب اليمين المتطرف من الانقضاض عليها بمجرد وصولها إلى السلطة. وإذا كان التخوّف من وصول اليمين الفاشي إلى السلطة حقيقياً فليس لأنه يستثمر في مخاوف الشرائح المحافظة الداعمة له من قضية اللاجئين بل لأنّ الأسباب الموضوعية التي حالت دون وصوله إلى السلطة في السنوات الماضية قد انتفت الآن. وهذا شأن يتجاوز قضية اللاجئين ويتعلّق أساساً بطبيعة التحوّلات الطبقية والاجتماعية الحاصلة في أوروبا نفسها، والتي يبدو أنها لا تعني الكثيرين هنا على الرغم من دورها المحوري في فهم ظاهرة اللجوء وتطوّرها، بوصفها «قضية أوروبية» تعني المجتمعات الغربية التي حدث فيها هذا الانتقال. حين يحدث هذا الربط ويتم التخلّي عن السياقات الأخرى التي يتعذّر تحليل ظاهرة اللجوء في ضوئها يصبح ممكناً خوض المعركة من أجل اللاجئين على نحو أفضل، وبالتالي تحسين شروط الدفاع عنهم بدلاً من استخدامهم الحالي في الصراع الداخلي بين اليمين المتطرف والائتلافات الحاكمة من اليمن ويسار الوسط. المشكلة هنا ليست في «الاستخدام» فحسب بل في وضع هؤلاء في مواجهة شرائح متزايدة من المجتمعات الأوروبية، وهي ليست يمينية متطرفة في معظمها، بل يمكن اعتبارها شبيهة إلى حدّ كبير بظاهرة الطبقات العاملة البيضاء التي تدعم وصول ترامب إلى الرئاسة في أميركا. وهذا بحدّ ذاته دليل على اتساع الظاهرة وتحوّلها إلى «نسق مهيمن»، وهذه الهيمنة بالذات لا تنفع معها التحليلات الثقافوية التي تُهمِل العوامل الطبقية أو تعتبرها شأناً هامشياً.
* كاتب سوري

  • هنالك عوامل اقتصادية يخفيها الساسة بهدف إبقاء الاستفادة من وراء المهاجرين

    هنالك عوامل اقتصادية يخفيها الساسة بهدف إبقاء الاستفادة من وراء المهاجرين (أ ف ب )

0 تعليق

التعليقات