تُعتبر «جبهة النصرة» من أكثر الفصائل المسلحة في سوريا، التي عمدت إلى توجيه تحالفاتها وانتماءاتها، بما يتناسب مع مصالحها الخاصة، المرتبطة بتطور المعارك ومستلزماتها، سعياً لتحقيق سيطرتها التامة في الميدان، دون الأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة لـ«الثورة». رسمت بينها وبين الفصائل المسلحة الاخرى، أكانت متحالفة معها أم لا، خطوطاً حمراء يُمنع تجاوزها، بيد أن تلك الخطوط، كانت «النصرة» سبّاقة في محوها وإنكارها وتجاوزها، مع أي تغيرٍ يطرأ، يجبرها على العودة عن مواثيقها، مما البسها صفة الانتهازية والغدر وقلب الطاولة على المسارات العامة للحركة «الجهادية» في الميدان السوري.كان الهدف الرئيسي والمعلن لـ«جبهة النصرة»، منذ إنشائها كفصيلٍ مسلّحٍ تابعٍ لـ«القاعدة»، هو السيطرة على كامل الأراضي السورية، وإقامة «الإمارة الإسلامية»، إما عبر تحالفاتها مع المجموعات المسلحة الأخرى، أو عبر معاركها مع بعض تلك المجموعات، بالإضافة طبعاً إلى حربها على الجيش السوري وحلفائه.
في سياق تحالفاتها، كانت «جبهة النصرة» حريصةً على أن تبدو بمظهر المتزعمة لأي حلفٍ ينشأ، بمعنى أن تكون المسيطرة على أي مجموعة مسلحة تقف إلى جانبها في معاركها، فتكون هي صاحبة القرار الوحيد، بمعزلٍ عن مخططات الفصيل المتحالف معها، وفي حال لم تستطع «النصرة» فرض قرارها على الفصيل المتحالف معها، فإن الأمور تتحول تلقائياً إلى اشتباك مع هذا الفصيل، بغض النظر عن المكتسبات الميدانية التي يمكن تحقيقها من استمرار التحالف، حيث أن «النصرة» تعتبر عدم تواجدها في موقع القيادة بأي منطقة تقوم بالسيطرة عليها، يساوي خسارتها لتلك المنطقة.
معظم المعارك التي حصلت بين «النصرة» والفصائل المسلحة، كانت تأتي بعد سيطرتها بالتحالف مع تلك الفصائل، على منطقة محددة في الميدان السوري، إلا أن عدم قبول الفصائل بقيادة «النصرة» عليها، أدت الى حصول اشتباكات دامية بين الطرفين، كانت نتيجتها في معظم الأحيان خسارة الجميع تلك المناطق بشكلٍ كامل، حيث عملت «قاعدة سوريا» على فرض واقعها الميداني والسياسي على جميع الفصائل، بما يتناسب مع طبيعة الفصيل، أي أنه فصيل «اسلامي متشدد» أو «معتدل» حسب الصفة التي يطلقها على نفسه.
وكان لافتاً في هذا الخصوص، ما قاله حذيفه نجل عبدالله عزام مؤسس ما يُعرف بـ«مكتب استقبال المجاهدين ضد الاتحاد السوفياتي في افغانستان»، ومعلم اسامة بن لادن الذي اغتيل في نوفمبر 1989 في افغانستان، حيث اعتبر عزام أن «كل مشكلة في الساحة السورية ما لم تكن جبهة النصرة طرفاً فيها حلها سهل وهيّن، تُحل على كأس من الشاي أو وجبة غداء أو عشاء نجمع فيها اﻷطراف وتنتهي المشكلة في نفس المجلس، بل أقسم بالله العظيم أن كثيراً منها تُحل باتصال أو مراسلة عبر وسائل التواصل والله على ما أقول شهيد». وأوضح عزام ضمن شهادته الشهيرة في آذار من عام 2016، حول صراعات «النصرة» ضد الفصائل المسلحة الأخرى، انه «ما سعيت في حل مشكلة بين الفصائل إﻻ نجحت ووفقت فيها، إﻻ حين تكون النصرة طرفاً في اﻹشكال فلا أنا وﻻ غيري تمكنا في يوم من اﻷيام وخلال السنتين الماضيتين من حل أي إشكال كانت النصرة طرفاً فيه قط».
شهادة عزّام ضد «النصرة» تؤكد على قيامها بفرض قواعد اشتباك لحربها على الجماعات المسلحة، غير آبهة بجميع المحاولات الداعية إلى وقف إطلاق النار والهدنة في حال لم تحقق تلك الهدنة الهدف الذي تصبو إليه. هي على استعداد لمحاربة جميع الفصائل في آنٍ واحد، إذا كانت تلك الحرب تصبّ في مصلحتها، كما أنه لا مانع من إقامة هدنة وتحويلها حتى إلى تحالف إذا شعرت أنها بحاجة لذلك في مرحلة معينة، بغض النظر عن طبيعة الفصيل الآخر، العقائدية والسياسية، أو تواجده الجغرافي.
وفي هذا السياق، برزت عوامل عديدة تحكمت بقواعد الاشتباك بين «جبهة النصرة» وباقي الفصائل، سياسية وجغرافية وعقائدية. من الناحية السياسية، تعاملت مع معظم الفصائل كخصمٍ سياسي، لا يمكن ان ترتبط بتحالف معها، كونها انطلقت في مشاريعها السياسية من اسقاط النظام والسيطرة على الحكم ضمن إمارة يحكمها الجولاني، الأمر الذي سيلغي أي وجود لفصيل مسلح آخر كحليفٍ لها، فطبيعة تلك الإمارة لا تقبل بالشراكة بينها وبين الفصائل الأخرى. انطلاقاً من هنا، كان مشروع الإلغاء السياسي لباقي الفصائل يرافق معارك «النصرة»، عبر رفض مشاركة أي ممثل لفصيل ضمن المفاوضات السياسية التي تحصل دولياً، ما يؤدي الى عدم الاعتراف بهذا الفصيل كممثل سياسي عن الفصائل الأخرى والتي من بينها «النصرة» بغض النظر عن عدم توفّر أي أرضية لذلك أصلاً، مع تواجد «النصرة» ضمن قائمة الإرهاب غير المرحّب بها في جولات المفاوضات الدولية، ومن ثم الانتقال الى مقاتلة الفصيل في الميدان مع توفّر الحجج المطلوبة لذلك والمتمثلة بمشاركته ضمن مفاوضات تعتبرها «النصرة» غير شرعية، الى ما هنالك من اتهامات بالخيانة والتآمر على «الثورة» مع الغرب، كما هو حال الصراع المستمر بين النصرة و«أحرار الشام» الذي اندلع عند مشاركة ممثل عن «الأحرار» في اجتماعات «المعارضة السورية» في الرياض.
الهدف الرئيسي لـ«النصرة» هو السيطرة على كامل الأراضي السورية وإقامة «الإمارة الإسلامية»

من الناحية الجغرافية، كانت قواعد اشتباك «النصرة» مع الفصائل الأخرى، تتمحور حول أهمية اي بقعة جغرافية في الميدان السوري في الوقت الراهن، حيث ان «النصرة» كانت تتحالف مع فصيل في منطقة محددة، وتقاتله في الوقت نفسه في منطقة أخرى. والأمر هنا ليس عدم وجود تنسيق بين مسلحي «النصرة» بل ان الواقع الجغرافي قد فرض نفسه، وبات من المهم السيطرة على المنطقة بطلبٍ خارجي من الدول الداعمة، لها أهداف خاصة تريد استغلالها في المفاوضات السياسية، أو ربما في سياق توسع «النصرة» الخاص بها داخل الميدان السوري، وتأتي تلك المفارقة بين منطقة وأخرى، من منطلق أنّه في لحظة معينة وجدت «النصرة» نفسها قادرة على الانقلاب على تحالفها في تلك المنطقة مع عدم وجود تلك القدرة في منطقة أخرى، مما يدفعها الى إعلان الحرب على مسلحي الفصيل هنا، مع إبقاء التحالف معهم هناك، حتى تتوفر الأرضية اللازمة للانقلاب على التحالف.
إضافة الى ذلك، فإن تحالفات «النصرة» ومعاركها من الناحية الجغرافية كانت مرتبطة بانتشار الفصيل الذي تحالفه، فإن كان هناك انتشار واسع للفصيل المسلّح، لا يوجد خيار للنصرة إلا التحالف معه ضد الجيش السوري أو فصائل أخرى، الى حين تمكين دعائم وجودها في البقعة الجغرافية عبر سلب الفصيل المتحالف معها نقاط تمركزه بشكل تدريجي وممنهج، أو افتعال المناوشات الجانبية لإضعاف تواجده والانقضاض عليه، تحت حجج الاحتكام للمحاكم الشرعية ورجال الدين الذين يتبعون في معظم الأحيان للنصرة (كما حصل مع جيش الاسلام في مناطق الغوطة من اتفاقات وهدنات في بادئ الامر، تحولت الى معارك عنيفة بينهما بعد تمكن «النصرة» من السيطرة على مناطق في الغوطة، وتمكين وجودها).
من الناحية العقائدية، تقلبت تحالفاتها واشتباكاتها مع باقي الفصائل، وعلى الرغم من التقارب الأيديولوجي الكبير ين معظم الفصائل المسلحة المقاتلة، فإنّ الأخيرة كانت توجِد لنفسها فوارق عقائدية بحسب رغبتها في القتال، أي أن تلك الفوارق تحكمها طبيعة المعركة القادمة ومع أي فصيل ستكون، فكانت معظم الاشتباكات التي خاضتها «النصرة» مع الفصائل الأخرى، تسبقها اتهامات من قبل للفصيل بالكفر أو الارتداد، وهو ما كان سهلاً مع الفصائل التي تصف نفسها بالمعتدلة (الجيش الحر)، وبحاجة لمحاكم شرعية أو خطابات «دينية» تحريضية بعناوين يغلُب عليها طابع المنافسة على تطبيق «شرع الله»، مع الفصائل القريبة من عقيدة النصرة (احرار الشام- داعش- جيش الاسلام). وكما هو الحال في النواحي الأخرى، فإن تلك الاتهامات تنطلق من الضرورات الميدانية، فمن الممكن ان يُكفّر مسلحي الجيش الحر في ريف درعا، وفي نفس الوقت يبقى التحالف قائماً معه في ريف حلب، كما انه من الممكن ان يتم اتهام مسلحي أحرار الشام بالارتداد عن الدين وعدم تطبيق شرع الله في ريف إدلب، مع مواصلة التحالف معهم في الرقة، الأمر يعود الى أهمية الجغرافيا التي تتواجد فيها، وامكانية السيطرة عليها لوحدها، أم انه يجب ان تكون ضمن تحالف مع الفصائل على تنوعها، فقد حاربت جبهة النصرة «الفرقة 13» التابعة للجيش الحر في ريف ادلب سابقاً، الا انها قاتلت إلى جانبها في ريف حلب مؤخراً، مع اشتداد الحصار على «جيش الفتح» من قبل الجيش السوري، والذي تشكل «النصرة» أحد المكونات الاساسية فيه.
انطلاقاً مما تقدّم، وبالتزامن مع فك الارتباط، الذي أعلنه الجولاني عن «القاعدة» أخيراً، وما سبق ذلك بخروجه من بيعة «البغدادي»، وبالإضافة إلى علاقاتها من صراعات وتحالفات مع الجماعات المسلحة الأخرى، نصل لاستنتاج لا لبس فيه أنها حركة قائمة على أساس الغدر والانتهازية، عبر استغلال التحالفات لتثبيت وجودها، ومن ثم تحويلها إلى صراعات لفرض هيمنتها. انتهازية «النصرة» تفسّر التوقيت الذي اختار به الجولاني اعلان فك ارتباطه عن «القاعدة»، وتغيير الاسم من «جبهة النصرة» إلى «جبهة فتح الشام»، حيث ان «النصرة» فقدت مصداقية السلوك مع الفصائل المسلحة، تبعاً للوقائع الميدانية وقواعد الاشتباك التي اتبعتها. إلى جانب ذلك فإن خطاب «الجولاني» الأخير يُفقد «النصرة» مصداقية الخطاب الذي تمّ الرهان عليه سابقاً. باعتبار أنّ خروجها من «القاعدة» انصياعاً للضغوط الدولية، يُعتبر احد الخطوط الحمراء التي وضعتها «النصرة» للجماعات المسلحة في وقتٍ سابق، برفضها التام لأي دخولٍ بالمفاوضات الجارية حول الأحداث في سوريا، مهما كان الضغط الدولي كبيراً، رافضةً أي كلام موجه إليها من قبل قادة الجماعات المسلحة، للخروج من عباءة «القاعدة»، بما يخدم «الثورة». فكيف الآن بالجولاني يقولها بصراحة، أنّ فك الارتباط جاء «نزولاً لرغبة أهل الشام في دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا وروسيا في قصفهم وتشريدهم، لعامة المسلمين في الشام بحجة استهداف جبهة النصرة التابعة لتنظيم قاعدة الجهاد»؟ ألم تكن تلك «الذرائع» موجودة سابقاً؟ ألم تحارب «النصرة» كلاً من «جيش الاسلام» و«أحرار الشام» و«الجيش الحر» بسبب خضوعهم لتلك الذرائع وسعيهم لتفكيكها؟ وعلى سبيل المثال، هل كان رفض «النصرة» لمشاركة لبيب النحاس في مؤتمر الرياض كممثلٍ عن «أحرار الشام» بسبب معارضة «القاعدة» لهكذا مؤتمرات، تغيرت اسبابه، ليقول الجولاني إن هدف فك الارتباط الآن يأتي «تقريباً للمسافات بيننا وبين الفصائل المجاهدة»؟ وهل ستبقى هذه الحجج التي قدمها قائمة في قادم الأيام؟
أمام هذه الأسئلة، ومع عدم نجاح أي رهان سابق على خطاب «النصرة» وعهودها ومواثيقها، فإن مصداقية أي خطوة جديدة لـ«النصرة» تبقى مشوبة بالشكوك، مهما كان حجمها العسكري والسياسي. كما ان قيام الجولاني، خلال ظهوره، بشكر قادة تنظيم «القاعدة»، لا سيما زعيم التنظيم ايمن الظواهري، على ما اعتبره «تقديم مصلحة أهل الشام وجهادهم وثورتهم المباركة، وتقديرهم لمصالح الجهاد العامة»، يؤكد على الانتهازية ذاتها التي تتبعها النصرة مع الفصائل المسلحة، لكن هذه المرة مع «القاعدة» بشكلٍ مباشر. فهل يمكن اعتبار ان هذا الانفصال جاء بموافقة الظواهري، أم أنّ الجولاني تعمّد تظهير الموضوع بهذا الشكل؟ لا سيما أن «القاعدة» بانفصال «النصرة» عنها، تكون قد فقدت تمثيلها بشكلٍ شبه كلّي في «بلاد الشام»، فهل هي على استعداد لخسارة بهذا الحجم، خدمة لمصالح الجهاد العامة بحسب نظرة الجولاني الذي تخلّى عنها؟!
* باحث لبناني