«إن ما سيسود هو ما يجب أن يسود، لا ما يريده المجتمع. أحياناً قد يحصل ما يريده المجتمع، ذاك أمرٌ عرضي. في النهاية الجميع يموتون».كينغ بين (زعيم الجريمة المنظمّة
في سلسلة «الشيطان الجريء»
من مارفل كوميكس)


خلال الخمسمائة عامٍ المنصرمة، لم تجرِ أي قراءة «كاملةٍ/ تحليلية» للإسلام؛ وهنا لا نعني بتحليلية الجانب الديني أو العبادي/ الفقهي فقط، بل ما نتحدّث عنه هو المنظومة السياسية الاجتماعية الحاكمة. ورغم عدم كل هذا، فإن الإسلام ظل قادراً على إنتاج نفسه بأشكالٍ متعددّة ولو عبر فطراتٍ هامشية مخيفة أو كما تدعى باللغة الإنكليزية Fringes. تحظى تلك الطفرات في غالبية الأحيان بالاهتمام الأعم والأشمل من «المعتاد/ اليومي» الإسلامي. مثلاً يحظى «داعش» بالاهتمام أكثر من مئات الحركات الإسلامية الهادئة أو المسالمة عموماً، طبعاً قد يشير البعض إلى «دموية» هذه الطفرات أو إلى ارتكازها على أفكارٍ «هدامة/ مدمرة». كل ذلك قابلٌ للنقاش بالتأكيد لكنه ليس المقياس الحقيقي للأمر؛ فالمقياس ينقسم إلى طريقين: ما يريده الغرب كمصلحةٍ «تسييرية»، وما يريده الغرب «مشاعاً» حول الفكرة في حد ذاتها.
بعيداً عن نظرية المؤامرة، والتي لا ريب أن بعضاً من مفاعيلها يحدث فعلياً، إلا أنّه وبمقتضى الحال يسيطر «الغرب» (سواء عبر حكوماته/ شركاته/ أثريائه) على «كل» وسائل التواصل العالمية المؤثّرة (الاجتماعية منها والكلاسيكية). باختصار أدق: لا يمكن أن تمر «فتفوتة» معلومات حول أي أمرٍ لا يريده الغرب أن يمر. قد «يحدث» خيطٌ رفيعٌ من مرور، ولكنه سرعان ما يتم إغلاقه وملاحقة مسرّبيه بشكلٍ «عنيف» و«موضعي» (تسريبات سنودن، أو ويكيليكس ـــ أسانج وطريقة التعامل معهما). إذا هناك إسلامٌ يرغب الغرب في «تظهيره» وتعويمه أحببنا ذلك أم لم نفعل؛ هذا الإسلام غالباً ما يكون «طفرياً» (إلا في بعض الحالات الخاصة كما حدث مع إعطاء الضوء الأخضر الأوروبي للبعثات الوهابية السعودية بالسيطرة على الجوامع الأوروبية خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مثلاً) إذا ما احتاج الغرب إلى وسيلةٍ/ مطية للدخول إلى منابع الدفائن المذهلة في الشرق. وقد لا يكون تعبير «مذهلة» وافياً حقه، إذ يبدو أنَّ الدفائن (البتروليات والغاز على أنواعه) والصراع عليها سيظل «حاكماً» مسيطراً على الوضع السياسي الإقليمي لبلادنا. بمنطقٍ أشمل: يبدو الإسلام الطفري وكما يمظهره ويحتاجه الغرب مناسباً للغاية. هنا نعود للمشكلة المطروحة عند بداية المقالة: القراءة التحليلية الشاملة والكاملة للبنية الحقيقية للإسلام. لم تحدث تلك القراءة وأي محاولة «جادةً» للقيام بذلك قوبلت بعداءٍ مستفحل وقمعٍ سريع. لا نقاش الآن لماذا حصل ذلك أو كيف، ولكن يمكن قراءة تجربة المفكّر الليبي الصادق النيهوم ومحاولته الدؤوبة لإيجاد «استعمال/ وظيفة» للجامع وصلاة يوم الجمعة، وكيف وصل الأمر في النهاية إلى منع بيع كتبه في كثيرٍ من الدول العربية. طبعاً تلك تجربةٌ «صغيرة» لا يمكن القياس عليها، فما نتحدث عنه ههنا هو أشبه بدراسة أكاديمية منهجية غير مواربة ولا محابية لأحد؛ وهذا الأمر بالطبع فضلاً عن كونه مرفوضاً من الجميع غير منطقي حدوثه البتة.
يأتي
السؤال الأكثر أهميةً:
عن أي إسلام نتحدث؟

في الإطار عينه، يأتي السؤال الأكثر أهميةً: عن أيٍ إسلامٍ نتحدث؟ ولا أطرق هنا موضوع الطوائف الإسلامية بل الاتجاهات الفكرية الإسلامية: هل نتحدث مثلاً عن إسلام الإمام الخميني 1979؟ أم إسلام الأزهر 2000-2016؟ أم إسلام السعودية الوهابي (ما بعد مرحلة التأسيس الأولى)؟ أم إسلام الإخوان المسلمين (بعد وفاة المؤسس حسن البنّا)؟ كل هذه الاتجاهات تمثّل مدرسةً فكرية قائمة بحد ذاتها: فالخميني قدّم إسلاماً ثورياً أنتج دولةً حضارية هي إيران، وتجربةً تحررية هي حزب الله. إسلام الأزهر على الجانب الآخر –ولو أنَّ كلامي لن يرضي أحداً- أنتج هدوءاً من خلال محاباته للحاكم، هذا الهدوء خلق –بشكلٍ أو بآخر- حالةً من الأمان الاجتماعي/السياسي/الديني في معظم الدول العربية. إسلام السعودية من جهته قدّم للمملكة دون غيرها ميزاتٍ لا تعد ولا تحصى، ففضلاً عن علاقته المثلى بالطفرات والهوامش الدينية، كانت لديه القدرة على فتح الباب الكبير أمام آل سعود لـ«تسيّد» العالم العربي، لا من خلال الأعطيات والأموال فحسب، بل من خلال «ترؤسه» كل التحركات الدينية المحتاجة «لقيادة» دينية/ روحية «حديثة/ قديمة» في آنٍ معاً من خلال ما سمي بالحالة «السلفية» (وإن كانت تتمايز عن حالة السلفية الجهادية لاحقاً). الإسلام الإخواني –وأيضاً لن يرضي الكلام أحداً- خلق دولةً ناجحة وعصرية (يمكنها التحوّل إلى ديكتاتورية بسرعة بالغة) في تركيا، فضلاً عن تجربة حزبية خاصة للغاية، استطاعت أن تسيطر على بلدٍ من أكبر وأهم البلاد العربية (مصر ولو أنها فشلت في المحافظة على مكاسبها لتسرعها)، و«سيطرةٍ» شبه تامة على قطاعٍ كبير من الوسط الفلسطيني ضمن الجناح المقاوم (حركة حماس). منطقياً لم تشعر معظم هذه الأيديولوجيات الإسلامية بالتشابه أو حتى بالرغبة في «التحالف» فيما بينها، بل بالعكس بادلت بعضها البعض الكره بكرهٍ أكبر والحقد بحقدٍ أكبر. ورغم أنّها «تعاونت» في بعض الفترات أو النقاط إلا أنّها أثبتت أنه «تحالف الضرورة» ليس إلا (يمكن مثلاً مراجعة موقف إيران الأخير أثناء حدوث الانقلاب على أردوغان مثلاً). نقطةٌ أخرى يجب الوقوف عندها كثيراً أن هذه الأيديولوجيات ليست أيديولوجية واحدة أبداً رغم أنّها من المصدر نفسه، وهنا نعود لفكرة أنه لم يعد مصدراً واحداً لأنّه لم تتم دراسته بشكلٍ دقيق كي يتم تحديد إذا ما زال مصدراً واحداً فحسب أم عدّة مصادر متشعبة ومتعددة.
ولا بد من الإشارة إلى أنَّ هذا الشرح المتناول لتلك الأيديولوجيات/ الاتجاهات لم يتحدّث عن «عيوبها» و«مساوئها» بل تناول «ميزاتها» إذ حتى اللحظة تمتلك جميعها «عيوباً» يمكن الحديث عنها مطوّلاً، لكن الأهمية ليست هناك البتة: الأهمية تكمن في أنَّ «النبع» بات قابلاً للإفساد والتشويه وبسهولةٍ بالغة. لقد بات لزاماً أن يجلس الجميع –وأعني بذلك جميع الجميع- للوصول إلى «دراسةٍ» شبه منطقية حول الإسلام (ولا أعني هنا التباينات المذهبية والخلافات المستمرة، بل أعني البنية الأيديولوجية للفكر الديني الإسلامي ككل).
ساعتها يمكن ببساطة الإشارة –جمعياً- إلى أنَّ هذه «الحركة الطفرية» أو «سواها» هي حركةٌ «مارقة» وبأن ما تفعله «لا يمت» إلى الدين بصلة، وإلى أنَّ الإسلام فعلاً «براءٌ» منها. ساعتها يصبح الإسلام عصياً، والأمة التي يحويها قويةً منيعة، عندها ببساطة يمكننا رفع شعار: الإسلام هو الحل. وحسب.
* كاتب فلسطيني