"ثغر البصرة الكفار محيطون به. الجميع تحت السلاح. نخشى على باقي بلاد الإسلام. ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع"


برقية أُرسلت عام 1914 من البصرة الى الشيوخ والعلماء في العتبات المقدسة ومدن العراق


في بداية انخراط السلطنة العثمانية في الحرب، حين أعلن كلٌّ من شيخ الإسلام في اسطنبول والسلطان نداء "الجهاد"، موضحين أن قتال روسيا وبريطانيا وفرنسا صار واجباً على كلّ مسلم (وهو الأمر الذي كان الألمان، على ما يبدو، يعلّقون عليه آمالاً)؛ تقول رواية غير مؤكّدة نقلها علي الوردي أنّ السلطان المخلوع عبد الحميد حزن وحلّ عليه التشاؤم حين سمع بالخبر. قال عبد الحميد إنّ أخاه قد أخطأ بإشهاره الجهاد، معلّقاً بما معناه أنّ "الجهاد" سلاحٌ معنوي، وُجد للتهديد وليس للاستخدام، وأنّه كان يلمّح اليه لدى مفاوضة القوى الكبرى لكي يحصل على شروطٍ أفضل وتنازلات، ولكن من غير نيّةٍ بالتنفيذ، لأنّه يعلم ــــ على حدّ قوله ــــ أنّ المسلمين حول العالم لن ينتفضوا تلبيةً لنداء السلطان، ولن تندلع الثورات ضد الأوروبيين، بل سيقاتل المسلمون الهنود في وحداتهم البريطانية ضدّ الخلافة كأن شيئاً لم يكن، فيخسر هذا السّلاح، لأنه أهدر بلا فعالية، قيمته ومعناه الى الأبد.
مهما يكن، الّا أنّ السّلطنة قد حشدت، خلال الحرب الكونية، كلّ سلاحٍ في يدها، بما في ذلك الدّين. التصوّف البكتاشي، الذي كان قد ضعف دوره الحربي بعد نكبة الانكشارية، استحضر من جديد وأصبح شيوخ الصوفية يتجوّلون بين المعسكرات التركية ويتقدّمون الوحدات في سيرها، وقامت العديد من المدارس الصوفية (كالمولوية) بتأسيس أفواجٍ مقاتلة خاصّة بها، وقد أكرمها الجيش العثماني بأن سمح لأفرادها بارتداء عمامة صغيرةٍ تميّزهم، توضع فوق الخوذ الحديدية. أمّا في العراق، حين احتدم الغزو البريطاني، فقد تمّ انزال العلم الحيدري من على قبّة المقام في النّجف، وأُرسل الى بغداد لترفعه الوحدات المدافعة (وقد تزامن وصوله مع الهزيمة الأولى للبريطانيين في المدائن، وزوال الخطر عن العاصمة).
في الكتابات البريطانية عن حملة العراق وهزيمة الكوت، تتركّز السردية عادةً على حصار تاونشند وفرقته داخل المدينة، والجوع الذي أصابهم، والاستسلام واقتياد الجنرال البريطاني الى اسطنبول. غير أنّ الحصار في حدّ ذاته، يصرّ المؤرّخ ادوارد اريكسون، كان جزءاً بسيطاً من لوحةٍ أوسع، حتى بالمعنى العسكري البحت، تفسّر هزيمة بريطانيا في جنوب العراق عام 1916: ايقاف القائد التركي نور الدين باشا لقوة الغزو في المدائن، ثم الحرب المتحرّكة التي شنّها على تاونشند المنسحب، حتّى وصل الكوت وحوصر فيها؛ والمواجهة الأهمّ والأكبر التي دارت ــــ أثناء الحصار ــــ على مجرى دجلة بين القوات العثمانية والفرق البريطانية التي كانت تتقدّم لانجاد تاونشند (خسر البريطانيون في هذه المحاولات وحدها، وسلسلة من المواجهات الخاسرة، أكثر من عشرين ألف جندي، وقد جرت آخر هذه المعارك في 22 نيسان في الفلّاحيّة، أقلّ من ثلاثين ميلاً جنوبي الكوت؛ وكان في وسع البريطانيين المُحاصرين سماع أصوات المدافع من بعيد، ما ملأهم أملاً، سرعان ما تحوّل الى خيبة ويأس حين خفتت أصوات المعركة ولم تأتِ النجدة، فاستسلموا بعدها مباشرة).
حين قرّر تاونشند أن يتحصّن في الكوت وأن يسمح للحصار العثماني بالإطباق عليه، بدا الخيار منطقياً في حينه: الكوت استراتيجية وتحمي الناصرية وجبهة الفرات، اضافة الى البصرة، وهو كان يعلم أنّ عدّة فرقٍ بريطانية صارت في البحر، في طريقها الى العراق، من أجل اسناده والإكمال الى بغداد؛ حتّى أنّه أمر، طوال الخمسين يوماً الأولى، بتوزيع حصصٍ غذائية كاملة على الجنود، ولم يكن في خلده أنّه سيجد نفسه ــــ بعد خمسة أشهر ــــ خائفاً جائعاً، يحيط به الأعداء ومعه أكثر من عشرة آلاف رجلٍ نفدت مؤونتهم وأرهقهم القنص.
يمكن القول أنّ أنور باشا، وزير الحرب وأقوى شخصية في "الاتحاد والترقي"، قد أضاع العراق مرّتين. الأولى كانت قبل بدء الحرب، حين قام بتفكيك الجيش الرابع العثماني (وهو أصلاً من أقلّ الجيوش العثمانية عدداً وتجهيزاً، ولا يكفي للدفاع عن الجبهة العراقية) وإرسال فرقه الى القوقاز والأناضول، تاركاً فرقةً واحدة، ناقصة العدد، للدفاع عن البصرة وبغداد ــــ بدلاً من تحصين شطّ العرب على طريقة الدردنيل، ومنع البريطانيين من الإنزال فيه. لهذا السبب تمكّن البريطانيّون من الاستيلاء على البصرة والقرنة، وتقدّم تاونشند بسرعة حتّى وصل الى أبواب بغداد، ولولا المساندة العشائرية العراقية في بداية الحرب والمتطوّعين المحليين، لكان تقدّم البريطانيين أسرع. بحسب علي الوردي، يبدو أن الخيالة العشائرية لعبت دوراً في المعارك في منع البريطانيين من الحركة والالتفاف على العثمانيين، فكان الشيخ عجمي السعدون في معركة الشعيبة، مثلاً، يمنع سلاح الفرسان البريطاني من المناورة، ويردّه حين يحاول تطويق الجيش، وقد أتقن خيالة المنتفق وباقي العشائر فنّ التفرّق الى مجموعاتٍ لتجنّب قصف المدفعية، ثم التكتّل فجأةً لحظة الهجوم (وربّما كان اعتياد العشائر على الحرب المتحرّكة أحد أسباب نفورهم من الحرب الدفاعية والخنادق وضرورة الصبر في وجه نيران العدو).
أضاع أنور باشا العراق ثانيةً حين انتشى بعد معركة الكوت فقرّر، بدلاً من تعزيز الجبهة العراقية والزحف نحو البصرة، إرسال فيلقين الى ايران، تنفيذاً لحلمه بدخول الهند على رأس جيشٍ عثماني. فبقي فيلقٌ واحد في جنوب العراق ليواجه قوةً غزوٍ جديدة، على رأسها الجنرال مود، تفوقه حجماً بأربعة أضعاف. على الرّغم من ذلك، أثبت العثمانيون في العراق أنّهم، ما أن يحظوا بدعمٍ وتكافؤٍ عددي، حتى يهزموا البريطانيين، بل وكانت خسائرهم، خاصة في المعارك الدفاعية، أقلّ بكثير من خسائر خصمهم الأوروبي. المثير ايضاً هو أنّهم كانوا، في جوانب كثيرة، يطبّقون "الحرب الحديثة" أكثر من البريطانيين، فكان العثمانيون معتادين على التنسيق بين المشاة والمدفعية، وكانوا ــــ بفضل التدريب الألماني ــــ أمهر من البريطانيين في حفر الخنادق والاستحكامات، وأكفأ منهم في السير السريع.
هذا ما حدث في معركة المدائن، حين أقام نورالدين باشا خنادقه مباشرة أمام ايوان كسرى الأثري، وقد حشد الفرق التي وصلت للتو من الأناضول، ليهزم تاونشند الواثق ويكسره ويدفعه الى الانسحاب حتّى الكوت. عشية المعركة، كتب تاونشند في مذكراته مستخفّاً بخصمه، وهو لا يعرف أنّ نورالدين، كالكثير من القادة العثمانيين يومها، كان عسكرياً محنكاً، قاتل لسنوات في حروب البلقان، وتمرّس في حروب العصابات ضد اليونانيين، ثمّ أُرسل الى حرب اليمن القاسية، قبل أن تندلع الحرب الأولى ويلمع نجمه في القوقاز ضد الروس (وهو لم يزل برتبة كولونيل).
حين اشتدّ الحصار على تاونشند، كان اتصاله الوحيد بالعالم الخارجي يتمّ عبر جهاز راديو، يتراسل بواسطته مع القيادة، وقد ازداد، مع الوقت، سخطه من أهل الكوت العرب، واعتبر أنهم جميعاً جواسيس ينقلون المعلومات الى العدو (كتب في مذكراته ما معناه أنه لا يمانع لو مات كلّ رجالهم في الصحراء). حاولت القيادة البريطانية، في نهاية الأمر، اعتماد حلولٍ غير تقليدية، كمحاولة رشوة القائد التركي، خليل باشا ــــ عبر "لورنس العرب" تحديداً، ولكن العثمانيين لم يقبلوا الا باستسلام الفرقة البريطانية كاملةً، وهو ما حصل في 29 نيسان 1916. لم يكن العراق يوماً اقليماً محظياً في العهد العثماني، بل كان طرفياً ومهملاً حتّى في أيّام الحرب (لم يفتتح أول شارع حديث في بغداد، شارع الرشيد، حتى 1916، وهذه عاصمة الاقليم ومركزه الاداري). كان العثمانيون، في الآن ذاته، يعادون أغلب سكّان العراق، العشائر، بدلاً من استثمار المجتمع بشكل كفوء في وجه الغزو (كما حدث في اسطنبول خلال حملة غاليبولي). على الرغم من ذلك، كان العراق مسرحاً لأكبر الانتصارات العثمانية في الحرب، وقد اصطدم العراقيون، للمرة الأولى، بمشهد غزوٍ غربي سيتكرّر في بلادهم كلّ بضع سنوات.