لا شك أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يختبر الآن سياسات وعلاقات ومقاربات جديدة. لم يكن ذلك ليحصل لولا النكسة الكبيرة التي أصابته بسبب مشروع الانقلاب الذي داهمه أواسط الشهر الماضي، وكاد يطيح بحكمه وحلمه لولا «مساعدة قريب» ونقص وارتباك في استعداد الانقلابيين. كان الرئيس التركي الجموح، إلى حد عدم التوازن أو الاتزان أحياناً، يحسب أنه ما زال رجل واشنطن الأول والمدلَّل كما كان الأمر منذ أكثر من دزينة من السنوات. آنذاك احتضنته واشنطن وشجعته وراهنت عليه لمواجهة التخلّف والتطرُّف في «الشرق الأوسط الكبير» الذي فشل أسلوب «المحافظين الجدد» في التعامل مع أزماته ومشاكله، أي أسلوب استخدام القوة والغزو والإخضاع. فشل أسلوب الغزو والعدوان وكانت كلفته عالية بكل المقاييس: الإخفاق العسكري، والنفقات الهائلة التي بلغت حد تهديد مجمل المنظومة الاقتصادية العالمية التي تقف على رأسها الاحتكارات الأميركية: شبه مطلقة الهيمنة والقوة على امتداد العالم أجمع. هذا فضلاً، قبل ذلك، عن الخسائر البشرية والسياسية والأخلاقية التي لا حصر لها.بدعم من واشنطن وبالتنسيق معها أشهر أردوغان سلاح الديمقراطية في وجه أجلاف العسكر التركي الذين حسبوا أن التحولات الاجتماعية الكبرى يمكن فرضها أو استمرار فرضها بالقوة والإكراه. وأشهر في مواجهة تخلف أنظمة الحكم الحليفة لواشنطن (في المملكة السعودية خصوصاً) شعار «مصالحة الإسلام والديمقراطية». أشارت التقارير الرسمية الأميركية بعد هجمات 11 أيلول، قبل 15 سنة، إلى تنامي خطر التطرف وتحوله إلى وباء عالمي فعَّال ومقلق. ولفتت أيضاً إلى مسؤولية بعض المؤسسات الرسمية السعودية في توليد التطرف والتشدد، ومن ثمَّ الإرهاب، بحكم ما هو معتمد فيها من عقائد وفقه ومناهج، وما هو متاح لها من إمكانيات تجعلها في موقع السلطة الموازية المتحكمة بإدارة مجمل الحياة الاجتماعية اليومية لسواد المواطنين، بكل ما في الكلمة من معنى.
واشنطن التي ساهمت بنشاط في إطلاق «الجهاد» ضد الجيش السوفياتي في أفغانستان (في ثمانينيات القرن الماضي) وأعطته دوراً سياسياً دولياً، بدأت تدرك خطر هذا السلاح عندما يخرج عن السيطرة ويشق لنفسه طريقاً خاصاً على غرار ما بدأ يحصل مع «طالبان» في أفغانستان، ومع «القاعدة» في بلدان عديدة. الواقع أنه منذ أواسط التسعينيات، تقريباً، أصبحت سياسات واشنطن وسفاراتها ورموز قوتها السياسية والأمنية والاقتصادية هي الهدف المفضل لتفجيرات إرهابية مجنونة ومصممة وفعَّالة.
كان أردوغان وحزبه الإسلامي «المعتدل» و«الديمقراطي» هو الحل، إذاً، لمعالجة التخلف والتطرف في البلدان والبيئات التي باتت أساليب حكم سلطاتها الحليفة عبئاً على واشنطن بالدرجة الأولى. لم يكتفِ أردوغان ببسط نفوذه على تركيا وتقديم حكمه نموذجاً ومثالاً. هو اقترح على واشنطن مشروعاً متكاملاً «للشرق الأوسط الواسع» بعد أن احترقت نسخة «المحافظين الجدد» من هذا المشروع في حرب العراق بشكل خاص. كان صعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في عدد من البلدان العربية، هو الأداة الأساسية لمشروع أردوغان الذي تبناه الأميركيون تحت عنوان مخادع هو «الربيع العربي». جرى استخدام الاحتقان والاحتجاجات الشعبيين من أجل قطع الطريق على التغيير السليم ومن أجل إقامة حكومات مرتبطة بالقيادة التركية ومنسجمة مع المشاريع والسياسات والأساليب والادعاءات الأميركية (تحوّل الربيع العربي الموعود إلى نقيضه برفض أبسط مطالبه من قبل فريق، وبتزوير أهدافه من قبل الفريق الآخر). نجح ذلك في مصر، وجزئياً في تونس والمغرب. كان من المفترض أن يستمر تطور الأحداث بما يعزز سيطرة «الإخوان» في هذه الدول، والانتقال من ثمَّ إلى بلدان أخرى. التعثُّر في مصر كان هو الحلقة الأخطر في دفع واشنطن نحو خيارات جديدة أهمها: العسكر! من جهته، النظام السعودي المذعور والمهدّد لم يقف مكتوب الأيدي أيضاً. قاوم بضراوة مشروع صعود «الإخوان المسلمين». قدَّم لواشنطن تنازلات ووعوداً تحقق بعضها في عهد الملك وسلمان وولي ولي عهده. كذلك فقد تعثر المشروع الإخواني التركي الأميركي في سوريا وتحولت سوريا، سريعاً، إلى أحد أخطر مراكز نشاط الإرهاب في العالم. أما الموقف التركي فقد ظلَّ يشدد على شعار إزاحة الرئيس بشار الأسد، بصرف النظر عن أولويات وسياسات أخرى، مغايرة، فرضها على حلفاء تركيا تعاظم خطر الإرهاب وتأسيس دولة «خلافة» خاصة به على مناطق واسعة في سوريا والعراق. أي أن أردوغان واصل سياساته السابقة نفسها التي تستهدف إيصال «الإخوان» إلى السلطة، ولو عبر دعم الجماعات الإرهابية التي استفحل خطرها وضررها في العالم أجمع.
إزاء هذه التطورات غير الملائمة، مارس أردوغان سياسة الهروب إلى الأمام. خاض حروباً متواصلة في حزبه ومع رفاقه ومع حلفائه. دخل في نزاع مع واشنطن حول الأولويات في سوريا والمنطقة. مارس سياسة الابتزاز حيال أوروبا. وهو، في موضوع العسكر ودوره، بالغ في الحذر والشكوك وصولاً إلى تحضير انقلاب شامل في الجيش وعلى الجيش، بذريعة منع نشاط حليفه السابق الداعية غولن فيه، ولضرب ما تبقى من دوره السابق في الهيمنة على السلطة بذريعة حماية الدستور العلماني... هذه الأحداث وسواها جعلت صورة أردوغان تهتز: في الانتخابات، وفي تجدد الصراع مع الأكراد، وفي بروز نزاعات التفرد والهيمنة والاعتداء على الحريات العامة والإعلام والمعارضين وفي الإخفاقات الخارجية... واكتشف أردوغان، أخيراً، أن لواشنطن رباً واحداً هو المال. لذلك كان يراقب بقلق تطبيع علاقتها مع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر، وتخليها عن شعار إسقاط الرئيس بشار الأسد («الآن»!) في سوريا، ودعمها المتصاعد للأحزاب الكردية وتطلعاتها الانفصالية في أكثر من بلد، وتراجعها بالمقارنة مع التقدم الروسي.
بكلام آخر، أدرك الرئيس التركي أن مشروعه مع واشنطن قد انتهى وأن واشنطن لن تتورع عن دعم خصومه، ليس في المنطقة فحسب بل في تركيا أيضاً! استبق ذلك بحملة ضارية ضد غولن والجيش لتصفية نفوذ الأول وإبعاد الثاني، نهائياً، عن مواقع التأثير والفعالية في السياسة التركية. طبعاً كان يظن أنه يخوض معركة من طرف واحد. اكتشف العكس في منتصف تموز الماضي حين لفته قريب له إلى أن ثمة انقلاباً يجري (ليست الأجهزة المعنية هي من كشف الانقلاب). حجم الاعتقالات والملاحقات وتناولها نخباً في المجتمع السياسي والعسكري والقضائي والتعليمي... تشير إلى حجم ما كان يعتمل في الكواليس من نقمة وصراعات ومتضررين... زاد في الطين بلة أن واشنطن بدت متريثة بل ومتواطئة، وهو ما دفع السلطان المخدوع إلى البحث مكرهاً وذليلاً في خيارات أخرى منها الاعتذار من موسكو والتوسط من أجل زيارتها والتنسيق معها (ليس كخيار جديد بل لفرض تغيير في السياسة الأميركية حياله وحيال دوره في تركيا والمنطقة).
أردوغان بعد الانقلاب رجل أكثر واقعية وأقل تشاوفاً وطموحاً. هو الآن جاهز لتقديم تنازلات لمن يقدم له ضمانات ومساعدات أكثر. انتقل من الهجوم إلى الدفاع. بيد أن واقعيته المستجدة تلك لا تلغي فيه ملكة الغدر والاستذآب وقت تلوح فرص أو تطرأ متغيرات!
* كاتب وسياسي لبناني