تشكل العلمانية في الأصل دعوة إيديولوجية لفصل الدين والامتياز الديني عن الدولة السياسية البورجوازية الحديثة، وهو أمر ذو مغزى في أوروبا زمن الانتقال من الأسلوب الإقطاعي للإنتاج إلى الأسلوب الرأسمالي. كانت اليهودية ــ المسيحية الأوروبية تمثل إيديولوجيا النبالة، لهذا السبب أخذ الصراع السياسي الذي قاده مفكرون بورجوازيون طابع الصراع الإيديولوجي ضد الدين اليهودي - المسيحي كصراع ضد إيديولوجيا الطبقة السائدة، وبهذا الشكل فقد اكتسب معنىً تاريخياً وعضوياً، بكلام آخر إن هذه الإيديولوجيا قد خرجت من رحم الصراع التاريخي وعلى أساسه.
ولا بد أن نميز هنا بين البيانات الكتابية/ المكرّسة اليهودية – المسيحية (الكتاب المقدس= العهد القديم + العهد الجديد) من جهة وبين الأفراد اليهود والأفراد المسيحيين في أوروبا العصور الوسطى، حيث حرّمت الكنيسة الكاثوليكية الربا على رعاياها كنشاط اقتصادي، بالتالي فقد انحصر هذا النشاط عند الأفراد اليهود، ما ولد نفوراً تجاههم وكرّس عزلتهم الاجتماعية.
النقد للتراث القومي والديني هو الكفيل بإخراج المثقف من عزلته الاجتماعية المؤسفة

إن هيمنة إيديولوجيا الدولة وإلحاق الايديولوجيا والمؤسسات الدينية بها عبر رعاية الدولة للإسلام الرسمي هو الأمر القائم في الأقطار العربية. وهو عمل ذو اتجاه رجعي ومحافظ معاكس في اتجاهه وحركته للمشروع المحمدي الذي أساسه دعوة علمية /تاريخية لنقل العرب من نظام القبيلة إلى نظام الدولة وهو بهذا عمل تاريخي تقدمي يشبه تحويل الدولة البورجوازية إلى دولة اشتراكية من وجوه عدة: «هي كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم». إنه خطاب محمد إلى أسياد قريش. من أن مشروع الدعوة في جوهره مشروع الحزب الهاشمي لبناء دولة العرب الجديدة تحت رئاسة قريش. فمنذ البداية كان المشروع المحمدي يجنّد أمميته وبعده العالمي من أجل إقامة دولة العرب التي وعد بها جدّه عبد المطلب من قبل. وما إن نصّب الخليفة الأول للنبي، وهو قرشي من بني تيم، حتى زالت الوجوه الأممية للمشروع المحمدي: سلمان الفارسي، بلال الحبشي، صهيب الرومي. وحتى وجوه القبائل غير القرشية فقد تم تهميشها ضمن معادلة السلطة الجديدة. مثال أبو ذر الغفاري، وعمار ابن ياسر، وزعامات الأنصار في المدينة كسعد ابن عبادة من سادات الخزرج، والحباب بن المنذر. إذن وضمن آليات تأسيس الدولة الجديدة لم يعرض للإسلام عبر دولته بأشكالها المتعددة - مع بعض الاستثناءات - مشكل كهذا. أما مسألة فصل المجتمع عن الدين فهذه خرافة في الشروط العالمية القائمة. وقد تلتبس مع مسألة فصل الدين عن السياسة، أي عن الحزب السياسي وعن الدولة معاً. لم تعان دولة الليبرالية في مصر وسوريا بين الحربين [دولة أعيان المدن من الملاكين العقاريين والبورجوازيين] من مشكل العلمنة. كانت علمانيتها شكلية وبديهية تحت تأثير علمنة الدولة التركية الحديثة وتحت تأثير الحضور الأوروبي المباشر الاستعماري والتبشيري السابق للاستعمار الامبريالي الرأسمالي. كذلك دولة البورجوازية العربية القوموية بعد الحرب العالمية الثانية هي الأخرى لم تعان من مشكل كهذا. مع أن لأعيان المدن علمانيتهم الشكلية والقومويون لهم علمانيتهم التلفيقية.
يمكن اعتبار ظاهرة تديّن الحزب السياسي بهذا التواتر المتنامي، منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، على أنها ناتج الإمبريالية كعقبة خارجية أمام أي تحديث اجتماعي وناتج البنى الاجتماعية العربية المخلّعة كأوضاع إمبريالية داخلية عاجزة عن التحديث والتقدم مجسدة بسيطرة البورجوازيات العربية كبورجوازيات رثة بحكم شروط ولادتها في العصر الإمبريالي، سواء أكانت بورجوازية عائلية أم قوموية. لم يكن شعار التنمية الذي رفعه الغرب وشيّع له في أطراف النظام الرأسمالي، سوى إيديولوجيا فاسدة لمحاربة المد الشيوعي ومواجهة حركات التحرر القومي الجذرية. وقد استبدلت بها هذه الأيام فكرة مشابهة لقبها: «التنمية المستدامة»!
إن تخلع البنى الرأسمالية الطرفية كأوضاع إمبريالية مجسدة بسيطرة بورجوازية رثة وحضور الإمبريالية كعقبة خارجية هو ما آل إلى انسداد آفاق التقدم الاجتماعي والتحديث الصناعي في هذه الأقطار، بالتالي أدى إلى مظاهر سياسية غاية في الخطورة كالاستبداد السياسي والتكييف الاجتماعي الذي طاول الطبقات الكادحة بخاصة العمال والفلاحين وفقراء المدن، حيث حشرت هذه الطبقات في نقابات حكومية مؤدلجة بعنف ومقموعة بعنف. ما آل إلى عملية إحباط عام ولامبالاة سياسية عامة شملت أغلب قطاعات المجتمع وطبقاته، وكانت النتيجة فراغات سياسية خطرة وولاء الكل لحزب السلطة الوحيد الذي بات فرّاخة للانتهازية والتزلّف و الفساد الروحي والنفاق الاجتماعي مما دفع بقطاعات اجتماعية واسعة للبحث عن تعبيرها السياسي في الحزب الديني، حيث راحت الثقافة الدينية تعلن بأنها البديل التاريخي للأيديولوجية العضوية؛ الأيديولوجية التي تهدف إلى التقدم الاجتماعي وإلى التحديث الصناعي والمعادية للأوضاع الإمبريالية بكل صورها.
الانسداد التاريخي في الأطراف الرأسمالية والاستبداد السياسي المرافق له دفع الثقافة الدينية لتترك حقلها الوجداني الفردي ولتعمل في السياسة كحزب ديني متعصب أو عصبوي مقابل عصبوية النظام السياسي المستبد والمحتكر للعمل السياسي. فحرية الحركة التي صودرت عند الحزب السياسي - المدني الحديث، ولدت حرية للثقافة الدينية كي تنشط وتعمل كبديل لهذا الحزب الحديث. وهكذا نشهد في القرن الحادي والعشرين عودة السياسة من المدرسة الحديثة إلى الجامع ومن الجامعات إلى المعاهد الدينية؛ إنها حركة نكوص للحركة السياسية العربية بعد تجربة مئة عام من التحديث البورجوازي - الطرفي المبتسر.
في بداية القرن العشرين كنا نشهد انتقال السياسة والحزب السياسي من الجامع إلى المدرسة الحديثة ومن الأزهر إلى الجامعات الدنيوية الحديثة. بعد مئة عام نشهد حركة ناكسة على أعقابها.
إذاً، ليست المشكلة التي يعاني منها العرب هي في العلمانية بمعناها الأوروبي أو في غيابها لأن المشكل بقي قائماً سواء وجدت العلمانية أم لم توجد. لكن هذا لا يعني أن الاشتراكية الماركسية/الديمقراطية غير معنية بمسألة العلمانية وبإعادة إنتاج المفهوم وفق الشروط الجديدة.
لكن ما هي هذه الشروط الجديدة التي تستدعي إعادة إنتاج مفهوم العلمانية؟
إذا كانت حركة صعود البورجوازية الأوروبية اعتباراً من القرن السادس عشر قد أنتجت مفهوم العلمانية كفصل الدين عن السياسة (الدولة)، فإن ولادة البورجوازية العربية في اللحظة التاريخية التي تحولت فيها البورجوازية الأوروبية إلى رأسمالية/ إمبريالية جعل هذه البورجوازيات العربية ملحقة بالمراكز الإمبريالية وعاجزة عن انجاز مهمات التوحيد القومي والتحديث الصناعي، كما أن أصولها الإقطاعية والعائلية وضعف مهامها التاريخية جعل من علمانية بعض قطاعاتها علمانية شكلية مغلفة بتبجيل واضح للدين الإسلامي الرسمي كتراث أو قسم من تراث.
وبما أن عجز البورجوازية العربية عن انجاز المهام الديمقراطية كالوحدة القومية العربية والتصنيع على شاكلة بلد متطور صناعياً قد نقل هذه المهام إلى الطبقة الجديدة (البروليتاريا)، فمن الطبيعي أن تقع مهمة إعادة إنتاج مفهوم العلمانية من جديد ووفق الشروط الجديدة على عاتق هذه الطبقة الجديدة ومثقفيها العضويين. لقد «ورثت» البروليتاريا العربية المهمات التي عجزت البورجوازية عن انجازها وراثة أولية؛ أي وراثة بالقوة لا بالفعل، وهو ما يتطلب رفع هذه المهمات من موضعها البورجوازي إلى مستوى العمل الاشتراكي. بقول آخر تتميز البروليتاريا (الطبقة العاملة في وجودها السياسي) عن البورجوازية بكون الأولى لا تملك شيئاً بالمعنى الاقتصادي، لهذا فإن قيادتها للمشروع الديمقراطي تعتمد على رافعتين هما الوعي الطبقي والديمقراطي من جهة والتنظيم الذاتي وتنظيم التحالفات مع الطبقات الهامشية والأقليات القومية من الجهة الأخرى، هكذا تبدو الطبقة العاملة في حضورها السياسي الطبقة القومية الحقة والديمقراطية الحقة. وحتى تكون كذلك يتوجب عليها المبادرة إلى نقد تراثها القومي ومنه الديني نقداً شاملاً وفعالاً وفق منهج ديالكتيكي مادي/تاريخي يحفظ ويرفع كل ما هو نابض في التراث القومي والديني ويسقط ما هو متهافت وفائت. خلال سير هذه العملية المعقدة التي سوف تتضمن تحقيقاً شاملاً للتراث ومن ثم نقد وحكم ومن ثم حفظ ورفع ، خلال هذا السير سوف يعاد إنتاج مفهوم العلمانية من جديد، ولسوف تصل هذه الحركة ذات الطابع التاريخي والصراعي على المستوى السياسي والإيديولوجي إلى نتائجها الطبيعية التي تشمل فصل الدين عن السياسة؛ السياسة التي تشمل الحزب السياسي وتشمل كيان الدولة. وهنا يظهر ديالكتيك إعادة إنتاج الإيديولوجيا العلمانية كجزء من ديالكتيك وحدة العملين الاشتراكي والديمقراطي في سياق صعود هيمنة البروليتاريا العربية في مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي.
ليست المهمة الملحة التي تواجه النخب العربية النشطة في الحقل السياسي والإيديولوجي قائمة في فصل الدين عن السياسة سواء كانت دولة أم حزباً سياسياً فحسب. بل قائمة أيضاً في نقد التراث القومي ومنه الديني نقداً شاملاً، بالتالي وصل هذه النخب الديمقراطية، العلمانية واليسارية ومعها الثقافة الحديثة الديمقراطية واليسارية والماركسية بالمجتمعات العربية. وهذا الربط والوصل لا يكون بالدعوة لعلمانية أوروبية مجردة ألقيت على المجتمعات العربية «كحبة قمح سقطت على الطريق فأكلتها طيور الأرض». بل يجري هذا الوصل أو الربط عبر عمل طويل ومثابر لتحقيق التراث القومي ومنه الديني العربي، ونقده نقداً جذرياً، ودمج كل ما هو نابض وفعال منه في الثقافة الحديثة الاشتراكية الماركسية/ الديمقراطية. هذا النقد للتراث القومي والديني هو الوحيد الكفيل بإخراج المثقف العلماني، الديمقراطي والماركسي (المثقف الحديث عموماً) من عزلته الاجتماعية المؤسفة.
* كاتب وباحث سوري