فلننسَ، لبرهة، الكتابات السياسية العربية عن مفهوم "الامبريالية" خلال السنوات الأخيرة، والتي صاغ أكثرها يساريون سابقون (سنشرح السبب لاحقاً)، ولنتذكّر أنّ "الامبريالية"، أصلاً، هي مفهوم توصيفي فحسب، وجزء من فهمٍ أوسع للرأسمالية والسياسة، وليست شتيمةً أو تعبيراً أخلاقوياً يعني "الشرّ" أو "الغزو" (فالاحتلال والطمع والجشع والتوسّع، هذه كلّها صفات موجودة قبل "الامبريالية" ولا علاقة لها بها). بالمعنى الأصلي، الأكاديمي للكلمة، فإنّ "الامبريالية" كما شرحها جون هوبسون في السنوات الأولى من القرن العشرين (وهو ليس ماركسياً حتّى) لا تشير الى "فعل" أو "سلوك"، أو حتى "عقلية" دول، بل هي دينامية لها سلسلة سببية، وسياق تاريخي وجغرافي محدّد، وهي تجري تقريباً على النحو الآتي: بدءاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يقول هوبسون، تحوّل نظام الثورة الصناعية من إطارٍ لتنافسٍ شديدٍ بين وحدات إنتاج صغيرة في أوروبا الى ما يشبه التكتّلات والاحتكارات والمصالح الكبرى (بعضها خاص وبعضها الآخر برعاية الدولة وإشرافها). هذا التحوّل أمال ميزان القوى في المجتمع لمصلحة الرأسماليين والملّاك، فزادت نسبة الربح في الدخل الوطني على حساب نسبة الرواتب ــ ببساطة، أصبح الرأسماليون يراكمون أرباحاً أكبر ويدفعون لعمّالهم رواتب أقل. خلق توسّع الأرباح مقابل تقلّص الدّخل لدى عموم الشّعب مشكلة شهيرة، "تراكم الفائض وقلّة الاستهلاك". أين يذهب الصناعيون بهذه الرساميل المتراكمة، وكيف يضمنون أن تستمرّ بإنتاج العوائد؟ لا يوجد طلب داخلي يبرّر المزيد من الاستثمار، والمزيد من الاستثمار الداخلي إن حصل سيولّد، بدوره، كمّاً أكبر من الفوائض التي لا تستوعبها السوق المحلّية. من هنا، يكتب هوبسون، بدأت الدّول الصّناعية بالتّوسّع خارج القارّة، ليس بحثاً عن موارد وثروةٍ أو حتى عن أسواق ومستهلكين، بل ــ أساساً ــ لإيجاد ميادين جديدة تتيح استثمار هذه الفوائض الهائلة، وأن يجري هذا الاستثمار في ظلّ امتياز تنافسي لرأس المال "الامبريالي".
هكذا، كان أقلّ من 10% من أفريقيا يقع تحت الاستعمار الغربي عام 1875، فلم ينتهِ القرن الّا وتسعون بالمئة من مساحة القارّة قد احتلّه الأوروبيّون. وقد ترافقت هذه الاحتلالات، دائماً، مع استثماراتٍ أوروبية هائلة، من مصر الى جنوب أفريقيا، في الزراعة والري والسكك الحديد والتجارة والبناء؛ وتحوّلت المستعمرات الى "منفذٍ" للرساميل الأوروبية، تحظى فيها بفوائد الاحتكار والاحتلال والمخاطر المحدودة. هنا، يكتب هوبسون، يجب أن نرجع خطوةً الى الوراء ونسأل: لماذا اختارت هذه الدول "الطريق الامبريالي"؟ إنّ التوسّع الخارجي، والعسكرة والاحتلال والحروب، ليست الحلّ الوحيد لمشكلة الفوائض، بل هناك أيضاً "الخيار التوزيعي": أن تقوم الطبقة الرأسمالية بإعادة توزيع هذه الأرباح، داخلياً، على شكل رواتبٍ وإنفاق اجتماعي، فيرتفع الاستهلاك وتنخفض البطالة وتزدهر السوق المحلية، ولا يحتاج البلد الى الاستعمار والحرب (وهذا ما جرى، الى حدّ ما، في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية). هنا النّقطة المركزية في تحليل هوبسون، هو يقول إنّ هذا صحيح، بل سيكون الحلّ التوزيعي العادل أفضل للبلد وللشعب وللرأسمالية نفسها، ولكن "الرأسمالية" ليست شخصاً يفكّر، والقرارات الحكومية ليست نتاج إرادة شعبية ولا هي، حتى، تعبيرٌ عن "الطبقة الرأسمالية" بالمعنى الأوسع؛ هناك فئة محدّدة ضيّقة، لكنها ذات نفوذٍ هائل، بين الرأسماليين تحصّل أرباحاً هائلة بسبب الامبريالية، لن تحظى بمثلها في نظامٍ توزيعي تنافسي، وهي ــ لذلك السبب ــ توجّه البلد باستمرار صوب المزيد من الحرب والتوسّع (المصارف، صناعة السلاح، الخ).
قبل أن ندخل في النقاشات التي دارت حول هوبسون ومفهومه، أعتقد أنه صار واضحاً أنّ النّقاش الفكري العالمي حول "الامبريالية" هو في مكان، وكتابات اليمين العربي واليساريين السابقين ــ سواء في السخرية من الامبريالية، كأنّها نظرية مؤامرة، أو في الحديث عن "امبريالية روسية" ــ هي في مكانٍ آخر تماماً. هذا ليس بمعنى أنّهم يفهمون الفكرة خطأ، أو لا يعرفون أصلها، أو يفسّرون لينين على هواهم، أو يحرّفون الحقائق لأسباب سياسية، بل كلّ هذه الأمور معاً، الى درجة أنّك لا تعرف أين تبدأ "النّقاش". هذا ليس دفاعاً عن روسيا (وقد كتبت رأيي في النخبة الروسية الحاكمة أكثر من مرّة)، بل دفاعٌ عن حدٍّ ما من الحقيقة والاتّساق. من الممكن أن تكتب مقالاً وتسمّي روسيا دولةً عدوانية ومحتلّة وتوسّعيّة، ولكن ما علاقة هذا بالامبريالية؟ السّعودية، مثلاً، حكومة عدوانيّة تشنّ الحروب وتموّلها، وتغزو اليمن وتتدخّل في أكثر من بلد؛ ولكنّ المسافة بينها وبين "الامبريالية" هي كالمسافة بين سبّاحنا الأولمبي اللبناني والميدالية الذهبية. اليساري السّابق الذي عبر الى اليمين ويريد أن "يأخذ اليسار معه" الى حيث ذهب، ما هو إلّا الوجه الآخر لزميله الذي كان يصرخ، بصخبٍ ويقينٍ وتبشيرية، أنّ الماركسية "علم" وأنّها بديهية والطريق الوحيد للإنسانية، فأصبح يصرخ اليوم، بصخبٍ ويقينٍ وتبشيرية، أن الليبرالية "حقّ" وهي بديهية، والطريق الوحيد للإنسانية ــ وأنّ الامبريالية والاستعمار والطبقات أوهامٌ ولغة خشب.
في كتاب "الاقتصاد السياسي العالمي لإسرائيل"، لجوناثان نيتزان وشمشون بيكلر، نقاشٌ مهمٌّ عن مفهوم "الامبريالية" وعن علاقته بالتاريخ القريب لبلادنا (كتاب نيتزان وبيكلر قيّم للغاية، ليس فقط كعملٍ عن إسرائيل، بل كدليل في نظرية الاقتصاد السياسي، وفصوله الأولى تقدّم شرحاً ممتازاً ــ من وجهة نظر ماركسية ــ للنظريات الجديدة حول الرأسمالية اليوم، من "مدرسة التنظيم" الى دراسات "ما بعد الفوردية"). تمّ بناء الكثير على مفهوم "الامبريالية" الذي قدّمه هوبسون، يشرح نيتزان وبيكلر؛ انتقدت روزا لوكسبمورغ الكاتب الانكليزي، وإن وافقته على منطلقاته، وأصرّت على أنّ الرأسمالية لا تملك خيار "إعادة التوزيع"، كما يدّعي هوبسون، بل إنّ التوسّع المستمرّ والتنافس الحربيّ يقبع في جوهرها ولا مفرّ منه. أمّا المنظّر كاوتسكي، فقد طرح إمكانيّة قيام ما يدعى بـ"الامبريالية الفائقة"، حين تتوقّف الدول الصناعية الكبرى عن التنافس والصّراع، في وجه مقاومةٍ صاعدة من دول الجنوب والعمّال في الدّاخل، فتتكتّل في جبهةٍ واحدة لبناء امبريالية من نوعٍ جديد، تبدو سلمية وحضارية من الخارج، ولكنّها ــ في رأي كاوتسكي ــ أخطر من الامبرياليات المنفلتة التي عرفها القرن التاسع عشر.
المثير في الموضوع هو أنّنا، لو أخذنا الموضوع بجدية وخرجنا من اللغة المتعبة للايديولوجيا العربية، فإنّ مفهوم "الامبريالية" يصبح مفيداً للغاية، كأداة تحليل وليس ككليشيه. على سبيل المثال، بإمكاننا، باستخدام "الامبريالية"، أن نفهم ظواهر تحيط بنا، تبدو متباعدة تماماً ولا ترابط بينها، ولكنّ للإجابة عليها منشأً واحداً: لماذا تبدو أشكال الضباط الروس، في الإعلام والصور، "فظّة" و"مخيفةً" وأشبه بالجزّارين، فيما الجنرالات الغربيون لهم دائماً مظهرٌ نظيفٌ و"مكتبيّ"؟ لماذا يخدع الأميركيون السعوديين في صفقات الاف-15؟ ولماذا هيلاري كلينتون أسوأ من دونالد ترامب؟ أنا أحاجج بأنّ خيطاً واحداً يربط بين كلّ هذه الأسئلة. (يتبع)