قبل غزو العراق كانت الإدارة الاميركية تعمل بكل أجهزتها لوضع الخطط والوسائل للغزو وشن الحرب. وهو ما استفاض في شرحه وتوضيحه الكاتب والمؤلف الأميركي بوب ودورد، لا سيما في كتابه، «خطة الهجوم». ولعل استعادة ما كُتب درسٌ لمن يقرأ فيما يحصل اليوم في منطقتنا، من خطط هجوم صهيو-غربية مشتركة. في الفصل العاشر من كتابه المذكور شرح العمليات القائمة التي أخذت طريقها إلى التنفيذ بعد ذاك. فذكر مثلاً أن المسؤول عن الملف العراقي في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، رئيس عمليات العراق، كان اسمه «شاؤول» (لماذا؟ وماذا يعني اختيار هذا الاسم؟)، وقد أعدّ الخطّة مع معاون مدير الوكالة، جون ماكلوخلين. وكان شاؤول قد التقى وزير الحرب دونالد رامسفيلد في الأوّل من شباط 2002، وقدّم له تقريراً موجزاً عن خطة سريّة لدعم جيش الولايات المتحدة في عمليات تغيير النظام في العراق. وكانت وزارة الحرب قد بدأت اجتماعات أسبوعية حول العراق في ذلك الشهر (أي لمدّة طالت أكثر من سنة قبل تنفيذ الغزو في آذار 2003).
وذكر المؤلف أن شاؤول تأكد أن مصادره في العراق قليلة، وكانت محصورة بأربعة في وزارتي الخارجية والنفط، وأنّه لم يستطع، أو أن الوكالة لم تستطع اختراق الجيش والأمن المقرّب من رأس النظام. وفوجئ بأن كل المعلومات عن العراق التي كانت تصل إلى إدارته مصدرها جهاز الاستخبارات البريطاني. وأشار المؤلف إلى أن واشنطن لم تملك سفارة في بغداد، فكانت المصادر ترسل تقاريرها عبر الكومبيوتر، ورموزاً معينة لأقمار صناعية لتنزل مباشرة عند الوكالة في لانغلي. واقتنع شاؤول أن العمل السري وحده لا يستطيع التخلّص من النظام، ولا بد من اجتياح عسكري. وعمل بموافقة مدير الوكالة جورج تينت، ومعاونه، ومعاون مدير العمليات على وضع أمر استخباري سرّي جديد لتغيير النظام في العراق، ما لبث أن وقّعه الرئيس بوش الثاني، في 16 شباط. وقضى الأمر بأن تبادر الوكالة إلى توفير الدعم للجيش الأميركي في إسقاط صدام، وتضمن سبع صلاحيات صريحة جديدة:
1- دعم الأطراف المعارضة الراغبة في إزاحة صدام من جماعات وأفراد.
2- تنفيذ عمليات تخريبية داخل العراق.
تصب خطط ومشاريع الإدارة الأميركية في مصالحها وأهدافها الاستراتيجية

3- التعاون مع بلدان ثالثة - مثل الأردن والمملكة العربية السعودية - ودعم عملياتها الاستخباراتية السريّة.
4- تدبير عمليات إعلامية لنشر معلومات دقيقة عن النظام.
5- إدارة عمليات تضليل وتمويه لتضليل صدّام وقيادات النظام السياسية، والاستخبارية، والعسكرية، والأمنية.
6- مهاجمة وتخريب موارد النظام ومصارفه ومؤسساته المالية.
7- إحباط حيازة النظام لمواد ذات علاقة بجيشه، وخصوصاً برامج أسلحة الدمار الشامل لديه.
وشرح النقاش على هذه النقاط وتكاليفها المالية والأعداد التي يمكنها تنفيذها. وذكر أن في 20 من الشهر، أي بعد أربعة أيام من إصدار الأمر، دخل فريق مسح تابع للوكالة إلى المنطقة الكردية، شمالي العراق، تمهيداً لنشر فرق شبه عسكرية تابعة للوكالة كانت تحمل اسم «NILE» المكوّن من الأحرف الأولى لعبارة عناصر ارتباط شمال العراق باللغة الإنكليزية.
وفي 28 من الشهر نفسه، وصل الجنرال تومي فرانكس إلى مكتب رامسفيلد حاملاً ملفين سريين للغاية. كل منهما بحجم دليل هاتف منهاتن. فيهما حوالى 4000 هدف في العراق. وبعد مناقشات حولهما اتفق على التنسيق بين المؤسسات الأميركية العسكرية والأمنية والإدارية وترتيب جدولتهما بحسب مستوى أهميتها، وتنظيم خطط تنفيذها. ومن ثم وصل النقاش حول العمليات التمهيدية المطلوبة. ومن بينها نقاش حول الإعلام، وعن إمكانية إطلاق عمليات إعلامية ناجحة. وهذا ما يتكرر في كل ما تديره واشنطن وتوابعها، قبل وبعد تلك الأحداث.
ما تقدم به المؤلف في فصل من كتابه، وبإيجاز شديد أعطى صورةً عمّا يُخطّط ويجري العمل عليه من قبل الإدارة الأميركية والأهداف المنشودة منها، والأعمال التي تتم في سيرها أو ضمن إطارها. ومن القراءة فيما تقدم، يشعر المراقب السياسي أن الإدارة الأميركية حين تخطط لمشاريع فإنها تصبُّ في مصالحها وأهدافها الاستراتيجية، وخصوصاً في منطقتنا العربية والإسلامية، التي هي محور كل الصراع والهيمنة الإمبريالية والخطط الصهيو-غربية.
وللأسف يتخادم معها وينفذها بعض الحكومات العربية وبأموال عربية وبإعلام عربي، وهذا أو هنا الكارثة الفعلية. فالعدو معروف، وأهدافه معلومة، وقوته، وقدراته، وأعماله معروفة، ووسائله إليها لم تعد سريّة، أو مخبّأة، أو منكرة من جميع أطراف الصراعات. ولكن الخطر الكامن والمتأتي من تخادم الحكومات في المنطقة، وتقدّمها في الحروب بالوكالة، بل وتوفيرها تسهيلات وسبل واسعة وكثيرة لتلك العمليات الإجرامية، التي خُطّط لها ونظمت في أروقة الوكالات الاستخبارية الأجنبية، لا سيما من لم يعرف بعد أو تغطّى في ظرف ما غير معروف، هو المأساة وهو الذي يتطلب الانتباه له، ووضعه في مكانه المناسب، والسعي إلى إبعاده أو توقيفه عن المماهاة مع تلك الخطط الإجرامية.
كل يوم تتكشف أوراق ووثائق تعرّي تلك الخطط والمتعاملين بها ومعها، وتقول بصراحة عن خطط ومشاريع الهيمنة الإمبريالية، ونرى ما حصل ويجري من تخريب ودمار وتفتيت وحصار وضحايا لا تعد ولا تحصى في ميادين مختلفة، في الصراعات المسلحة أو الهجرة والنزوح، أو العطب الأخلاقي، والتضليل وتشويه الوعي وتزييف القناعات وخراب العقول.
وتبقى مسألة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن ما ذكره المؤلف ليس كله منزّلاً، ولا بدّ من التعامل معه بحذر أو تدقيق له. ولكن بعد كل تلك الفترة الزمنية التي مرّ عليها، وما ظهر وبان، يجعل التنبه مما كُشف ضرورياً، والتحذير من خطر ما فضحه، لا سيما ما دار حول أطراف عربية أو جهات عربية، وهو مكمن الخطر في المنطقة والعالم، أمس واليوم...
لو لاحظنا اليوم ما يحصل في منطقتنا، نجد تكرار تلك الخطط والأهداف في أكثر من بلد عربي، لا سيما تلك المبتلية بعمليات الحصار والحروب الداخلية، والإعلام المضلل وغيرها من العمليات والأعمال المؤدية الى الكارثة.
* كاتب عراقي