ما يحصل مع الحكومات اليسارية في أميركا اللاتينية هو أكثر من مجرّد صعود لليمين على خلفية أزمات اقتصادية ومعيشية. إذ لا يُعقل أن يحدث الأمر بهذا التسلسل وبهذه الدقّة في الربط بين الدول التي يخسر فيها اليسار لمصلحة اليمين. وحتى لو استبعدنا فرضية المؤامرة هنا فإنّ حصول الأمر «على نحو متزامن» في ثلاثة من أكبر البلدان اللاتينية (الأرجنتين، البرازيل، فنزويلا) يستدعي مزيداً من النقاشات على مستوى أداء الخصوم في اليمين، وخصوصاً لجهة قدرتِهم على تعطيل القاطرة السياسية التي قادت أميركا اللاتينية في السنوات العشرين الفائتة. من جهة أخرى، فإنّ الدعم الكبير الذي يلقاه اليمين في هذه الدول من الولايات المتحدة لا يفسر وحده عجز هذه الحكومات عن الحفاظ على هيمنتها الطبقية التي تداعت مع انهيار أسعار النفط ونفاد الفوائض المالية. للتذكير فقط فإنّ هذه الفوائض هي التي كانت تساعد الحكومات في أميركا اللاتينية على إتمام عملية التوزيع الاجتماعي، وبموجبها كانت تحصل الطبقات الفقيرة والمتوسّطة على حصّتها من الثروة، بعد أن تكون القاعدة الاجتماعية للسلطة قد توسّعت تلقائياً ربطاً بما تقدمه الدولة لهذه الطبقات. ويمكن القول إنّ عدم قدرة الحكومات اليسارية على الاستمرار في هذه السياسة بعد وفاة تشافيز وتعثُّر ديلما روسيف الجزئي في الحفاظ على تركة لولا هو الذي أوصلها إلى الوضع الحالي. وضعٌ لم تفقد فيه القدرة على توسيع قاعدتها الاجتماعية فحسب، بل أُضيف إليه أيضاً افتقارُها إلى أدوات التحكّم بالسلطة، بحيث تصبح أيّ عملية إجرائية (استفتاء على ولاية الرئيس أو دعوة إلى عزل الرئيسة برلمانياً) تدعو إليها المعارضة اليمينية محطةً إضافية للنيل من شرعية اليسار، عبر وضعه في مواجهة القواعد الاجتماعية التي خسرها أو أوشك على خسارتها.
اليسار بقيادة حزب
العمال أصبح عملياً بعد قرار العزل في مجلس الشيوخ خارج السلطة نهائياً

مسار التراجع

أثناء مثولها أمام مجلس الشيوخ البرازيلي للبتّ في موضوع «عزلها» أبدَت الرئيسة «المُقالة» ديلما روسيف خشيتها على المكاسب الاجتماعية التي تحقّقت للبرازيليين أثناء حكم اليسار، وخصّت بالذكر الإنجازات في مجالي الصحة والتعليم. ومع أنّ هذه الإشارة في مكانها تماماً نظراً إلى الحماسة التي أبداها «الرئيس» اليميني الجديد ميشال تامر للتسريع في برامج الخصخصة إلا أنها تجاهلت التراجعات التي حدثت لهذه الإنجازات أثناء حكم روسيف نفسها. فالأزمة لم تبدأ مع حصول التضخّم وانفجار أزمة شركة النفط الوطنية «بتروبراس» بل بدأت قبل ذلك بسنوات، وتحديداً في عام 2012 حين لجأت الحكومة إلى رفع أسعار المواصلات العامّة، ما تسببَّ باندلاع احتجاجات عنيفة في الشارع وحصول صدامات دامية مع قوات الأمن. هذا الصدام الأول من نوعه مع حكم اليسار في البرازيل أجبَر الحكومة على التراجع عن قرارها وإعادة الأسعار إلى ما كانت عليه، ولكن التراجع عنه تحت ضغط الشارع الغاضب لم يكن من دون ثمن. فقد تركت هذه الأزمة شروخاً كبيرة بين حكومة روسيف والقواعد الاجتماعية الداعمة لها والتي كانت أوّل المتضرّرين من تحريك الأسعار، نظراً لانعكاساته المباشرة على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. هنا بدأت أحزاب اليمين والتي لم يكن لوجودها وزن سياسي كبير بالتحرّك، مستفيدةً من الشروخ الحاصلة بين السلطة وقواعدها، فنشطت إعلامياً أثناء الأزمة، ثم تضاعف نشاطها الدعائي مع تجدّد الصدامات بين الحكومة والمحتجين أثناء تشييد البنى التحتية لمونديال الكرة في عام 2014. راهنت المعارضة في هذه الفترة على تآكل شعبية روسيف بين مؤيديها، ومع أنّ حضورها في الانتخابات الرئاسية في عام 2014 (انحصرت المنافسة فيها بين روسيف والمرشحة الاشتراكية عن حزب الخضر مارينا سيلفا) كان معدوماً إلا أنها كانت تحضّر لسيناريو آخر نظراً الى افتقارها في ذلك الوقت إلى الأدوات اللازمة لإحداث التعديل في المسار الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. هذا السيناريو كان يتعارض مع الشعبية الكبيرة التي تحوزها روسيف والتي تجدّدت بأكثرية طفيفة بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ولكي يتفادى اليمينيون هذا التعارض لجؤوا إلى نبش قضية «بتروبراس» التي تورّطت فيها معظم الطبقة السياسية البرازيلية بيمينها ويسارها، ولكنها وبسبب تلاعب اليمين وإعلامه بالأمر ارتبطت حصراً باسم الحكومة التي تقودها روسيف، ومعها طبعاً الرئيس السابق لولا دا سيلفا الذي لم يكتفِ اليمين بأبلسة وريثته فحسب بل جرّ قدمه إلى القضية أيضاً، في مسعىً واضح لتجريم كلّ هذا العهد والإتيان على معظم الانجازات التي حقّقها للطبقات الشعبية والفقيرة في البرازيل.

خيار المُجابَهة

في دفاعها عن نفسها أمام مجلس الشيوخ أبدَت روسيف عزيمة كبيرة، وأظهرت استعداداً للقتال حتى النهاية، وهو ما عُرفت به خلال مسيرتها الكفاحية الطويلة سواءً في مواجهة الديكتاتورية العسكرية أو أثناء وجودها داخل حزب العمال. ولكن في الوضع الذي تخضع له حالياً لا تكفي الإرادة وحدها للعودة إلى الحكم. فاليسار بقيادة حزب العمال أصبح عملياً بعد قرار العزل في مجلس الشيوخ خارج السلطة نهائياً، ولم يعد يملك الأدوات اللازمة لمجابهة ميل اليمين المتعاظم للسيطرة على الدولة وأجهزتها. وأوّل المؤشرات على ذلك هو القمع الشديد الذي ووجهت به التظاهرات المحتجّة على عزل روسيف في ساو باولو وغيرها من المدن البرازيلية. فالقمع الآن سيزداد مع كلّ خروجٍ جديد لليسار من السلطة، حيث ستصبح المسألة بالنسبة إلى اليمين ليس فقط منع اليسار من التواجد في المؤسّسات المُنتَخبة بل أيضاً مجابهته بشدّة في الشارع عبر حرمانَه من المساحة الوحيدة الباقية له للضغط على السلطة الجديدة في حال قرّرت التراجع عن المكتسبات التي تحقّقت للبرازيليين خلال حكم لولا (وهي ستفعل طبعاً). في هذه المرحلة سيحاول اليمين أيضاً بعد إخراج اليسار من السلطة التنفيذية وتحجيم وجودِه في الشارع حرمانَه من الأداة الأخيرة التي تتيح له مراقبة أداء السلطة. والمقصود بهذه الأداة الكتلة البرلمانية المتبقية له في مجلس النواب والتي لم تستطع نظيرتُها في مجلس الشيوخ إعطاء الرئيسة روسيف سوى عشرين صوتاً أثناء التصويت لإقالتها مقابل ستين صوتاً أو أكثر لليمين. هذا يدلّ على خلل فادح في ميزان القوى داخل المؤسّسات لمصلحة اليمين، وهو ما سيسعى الأخير إلى تأكيده عبر الانتقال من مرحلة إلى أخرى، مستعيناً بأدوات الهيمنة التي يملكها وهي كثيرة، ومستفيداً من تراجع الدعم الشعبي لحزب العمال الذي كان بإمكانه لو لم تحصل كلّ تلك الصدامات في عهد روسيف تأخير حدوث سيناريو الانقلاب البرلماني، ريثما يكون اليسار قد جهّز بدائله.

خاتمة

والحال أنّ البدائل الآن ليست متوافرة تماماً، وحتى لو أُتيح لها الشرط اللازم للتبلور فإنّ افتقار اليسار إلى الأدوات وهو خارج السلطة سيحرمها من الفاعلية السياسية، والتي بدونها لا يمكن مجابهة اليمين في مسعاه للسيطرة على أجهزة الدولة وجعلها تنحاز مجدداً للأغنياء وأصحاب الرساميل على حساب الطبقات الوسطى الدنيا والفقيرة. وفي ظلّ هذا الخلل الفادح في موازين القوى لا يكون الحلّ كما طرحت روسيف عبر استئناف قرار العزل، لأنّ العودة إلى السلطة الآن لن تكون فاعلة، هذا إذا سُمح لها أصلاً بالاستئناف، ولم تُحرَم وفقاً لما يطرحه اليمين من حقّها في الترشُّح مجدداً إلى أيّ منصب عام ربطاً بثبوت تهمة الفساد المزعومة عليها. المُجابهة هنا تصبح بلا أنياب، ولكي يتم استردادُها فعلاً كخيارٍ ممكن وليس «كمحاولة يائسة» لا بدّ من استعادة المبادرة عبر ترك السلطة التنفيذية لليمين، والاكتفاء بمراقبته برلمانياً، ريثما تتبلور انحيازاته الاقتصادية، ويبدأ اليسار بالتالي في معاودة استقطاب الطبقات التي خسرها جزئياً لمصلحة خصومه اليمينيين. هذه الطبقات هي التي ستحسم المعركة حين يكون اليسار جاهزاً لخوضها سواءً في الانتخابات الرئاسية المقبلة أو في أيِّ استحقاق آخر يستعدّ له البرازيليون. المهمّ هنا أن تكون الفاعلية قد استُعيدت على قاعدة الربط بين مصالح الطبقات المتضرّرة من انحيازات اليمين الاقتصادية وجاهزية اليسار لتلقّف قيادتها في لحظة تراجع اليمين أو «أفوله».
* كاتب سوري