إن الوقوف على مستجدات الأوضاع في سوريا، وتحديد مآلاتها، يستوجب الإحاطة بكامل عناصر المشهد السوري، وما يكتنفه من تداخلات إقليمية ودولية. وقد يكون ذلك من الصعوبة بمكان في ظل واقع متحرك ومتغير. وأيضاً لأن كثيراً من الباحثين درجوا على دراسة وبحث قضايا الواقع في وضعها السكوني، انطلاقاً من ثوابت نظرية وإيديولوجية ناجزة. فكانت تتجلى نتائج تلك الدراسات غالباً في سياق تتم فيه إعادة إنتاج وتوضيب تلك القضايا بأشكال وأنماط تتوافق مع ثوابتهم الإيديولوجية. وكان ذلك من أهم الأسباب التي أعاقت عملية الإنتاج المعرفي والفكري الراديكالي. ولا نقصد بذلك أن نتخلى عن مفاهيمنا النظرية، بقدر ما نعني أنها بحاجة إلى مرجعات نقدية. انطلاقاً من ذلك نرى أن ضبط وتحديد عوامل ومستويات الأزمة السورية، وتحديد مآلاتها يستوجب تحليلاً منهجياً مفتوح على مجمل التحولات وأسبابها الموضوعية والذاتية انطلاقاً من العام وصولاً إلى الخاص.
ــ إن تموضع الأزمة السورية والتحولات التي تكتنفها يندرج في سياق أزمة بنيوية عامة ومركبة تعاني منها شعوب ودول المنطقة العربية. وهذا يدلل على أنها ستخضع في المستقبل إلى تحولات بنيوية سيكون لها كبير الأثر في مستقبل شعوب المنطقة وأنظمتها السياسية. وبات واضحاً أن التحولات التي تمر أو ستمر بها شعوب المنطقة تتعدّى في أسبابها عوامل الأزمة السياسية والاقتصادية العميقة التي تتراكم مفاعيلها منذ عقود. وإن كان ذلك من الأسباب الأساسية التي دفعت إلى ما تشهده دول «الربيع العربي»، فإن تحديد مآلاتها يتجاوز عتبة الأهداف التي يطالب بها المواطن العربي. وذلك نظراً إلى تفاقم أزمة الرأسمالية البنيوية التي تساهم في تعقيد المشهد السوري.
إن تموضع الأزمة السورية يندرج في سياق أزمة بنيوية عامة ومركبة

ـ من الملاحظ أن العالم يقف على عتبة إعادة إنتاج نظام عالمي جديد يتجاوز حدود العوامل الذاتية لكل دولة. فازدياد كتلة رأس المال المتراكم، وشمولية تأثيره وتسارع حركته تجعله يتحوّل بشكل مستمر إلى أشكال وآليات عمل تُعبّر عن أوضاعه المتغيرة. وإذا كان ذلك يساهم في تجاوز بعض الإشكاليات والتناقضات، فإنه من جانب آخر يؤدي إلى تعميق أزمة رأس المال البنيوية، ذلك نتيجة تراكم فائض رأس مال مالي لا يتم توظيفه في الإنتاج الصناعي. وكان ذلك من الأسباب التي ساهمت في تجاوز وتحطيم الأطر والحدود القومية إلى أشكال وآليات عابرة للحدود والجنسية. وتلازم ذلك مع آليات اشتغال سياسية وعسكرية لتذليل العقبات التي تقف أمام حركة رأس المال. لكنّ ميل رأس المال للقطع مع قاعدته الإنتاجية، وتحوّله إلى أشكال مالية ساهم في تعميق أزمته البنيوية، وبالتالي أزمة الرأسمالية العالمية. وكان ذلك من الأسباب التي دفعت الدول الرأسمالية الكبرى إلى البحث عن مخارج جديدة لأزمتها. ويتجلى ذلك من خلال اشتغالها على إعادة فرض سيطرتها على مصادر الثروة خارج حدودها. ويتقاطع ذلك مع تناقضاتها البينية على إعادة تقاسم الثروات العالمية، وتتمظهر تلك الميول من خلال التناقض والصراع داخل منظومة رأس المال العالمية ومع القوى الاقتصادية الناهضة التي تعمل على صياغة تحالفات دولية جديدة. تلك الأسباب وغيرها جعلتنا نربط منذ البداية بين الربيع العربي بغض النظر عن أهدافه وحوامله السياسية والاجتماعية، وبين التحولات التي يكتنفها المشهد العالمي. ودفعنا أيضاً إلى تأكيد أن تحولات ومآلات الربيع العربي، لن تقف عند حدود دولة بعينها. وسيكون ذلك مرتبطاً بإعادة توضيب المنطقة لفرض شروط هيمنة رأسمالية جديدة تُخرج رأس المال العالمي من أزمته الراهنة، وتُحافظ على التراكم والاحتكار لصالح حفنة من المستثمرين والتجار والشركات العابرة للحدود والجنسية. إن قيادة الدول الرأسمالية الكبرى لتلك التحولات يؤكد أنها مجرد أداة للدفاع عن حرية رأس المال أياً تكن الأشكال التي يتجلى بها. وكان تحقيق ذلك يفترض من وجهة نظر حكومات تلك الدول بناء تحالفات جديدة وإعادة إنتاج القديم منها بأشكال جديدة. ومعلوم أن ذلك يتم في سياق صراع مباشر وغير مباشر. وهذا يجعلنا نؤكد أن تحديد أهداف ومآلات الصراع الذي يتهدد دول عربية وإقليمية، لا يرتبط فقط بحراك شعوب عربية تسعى إلى الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فذلك يتم توظيفه وإعادة إنتاجه في إطار التحولات العالمية الكبرى. وهذا يدلل مرة أخرى على أن صراع المصالح بين تلك الدول يتمحور حول مواجهة أي تحوّل ديمقراطي والاشتغال على إعادة رسم الخرائط السياسية والاقتصادية. في المقابل، فإن منطق التطور التاريخي يؤكد أن إرادة الشعوب الطامحة إلى تجاوز التخلف والاحتكار والهيمنة، تُشكّل المدخل الأساس لمواجهة تلك التحولات. هذا في لحظة ما زالت فيها حكومات كثيرة ترى أن الحفاظ على عروشها يقتضي مشاركتها بأشكال مباشر وغير مباشرة في الصراع ضد شعوبها وشعوب عربية أخرى. ويبدو ذلك واضحاً من خلال ازدياد وتيرة التعاون والتنسيق بين تركيا وقطر والسعودية والأردن وإسرائيل من جانب، وبين تلك الأطراف والمجموعات الجهادية من جانب آخر. وذلك لتحقيق هدفين: الأول فرض حلول سياسية تتناسب مع ميولها السياسية في سوريا والعراق واليمن وليبيا. الثاني: فرض معادلة عربية وإقليمية جديدة لا يكون فيها للروس والإيرانيين دور مهيمن في المنطقة. ومن الواضح أن تلك التحوّلات تتم بإشراف ورعاية أميركية وغربية.
إن التحولات السياسية والعسكرية المحمولة على قوى إسلامية سلفية وهابية تكفيرية مدعومة من قبل دول عربية وإقليمية تثير مخاوف السوريين الطامحين إلى إقامة نظام سياسي ديمقراطي علماني يضمن المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، وأيضاً الرافضين لسيطرة القوى الإسلامية. وتزداد مخاوف السوريين نتيجة: تفاقم مظاهر التداخل والتناقض في وطنهم، وتنامي ظاهرة التطرف الديني، وعجز أطراف الصراع عن بلورة مشروع سياسي ديمقراطي وطني جامع. ويتزامن ذلك مع عجز المعارضة عن تشكيل رؤية سياسية مشتركة، وتطوير آليات عمل سياسي مشترك. ولا تقف أزمتها عند تلك الحدود، لكن تتجاوزها إلى مزيد من الارتهان والتبعية. وكان لذلك دور كبير في زيادة عزلة المعارضة وتفككها إضافة إلى فقدانها للمصداقية والفاعلية، وتفاقم مظاهر التشكيك بأهدافها وولاءاتها. وفي اللحظة التي نتكلم فيها عن صراع مشاريع دولية وإقليمية على أراضٍ عربية، فإن تفاقم الكارثة الإنسانية يقضُّ مضاجع السوريين من دون استثناء. فعداد الموت لا يتوقف، وضحايا القتال الدموي يتحولون إلى مجرد أرقام في سجلات. هذا في لحظة لا تفارق فيها عيون السوريين نساء ورجالاً دموع الحزن واللوعة على فراق أحبّة لم يبق منهم سوى الذكرى، وبقايا أحلام وآمال كانوا زرعوها قبل رحيلهم الأخير. وإضافة إلى معاناة الهجرة والنزوح التي يعاني منها أكثر من نصف السوريين، فإن الموت يتربص بمن يضطر إلى الهجرة. أما في ما يتعلق بالمستوى الاقتصادي فإن حوالى 90% باتوا عاجزين عن تأمين أدنى متطلبات حياتهم اليومية. ويتزامن ذلك مع دمار البنى التحتية والمشاريع الإنمائية ومصادر الثروة الطبيعية والزراعية والصناعية والسياحية. وكلما استطال الصراع تزداد الفجوة بين معدّل الدخل وقيمة الليرة السورية من جهة، وبين معدلات التضخم والأسعار. إضافة إلى ذلك فإن تجار الحروب وزعماءها يقبضون بالأنياب والنواجذ على رقاب السوريين مستخدمين أشكال النهب والاحتكار كافة، فحوّلوا حياة السوريين إلى جحيم لا يطاق. فلم تبق أسرة لم تتأثر علاقات أفرادها من تداعيات الصراع. ويجب ألا ننسى ارتفاع حالات الخطف والاغتصاب والزواج القسري وتجارة الأعضاء البشرية. هذا في وقت تنتشر فيه لغة القتل والعنف كالنار في الهشيم. ولم يعد أي من السوريين بمنأى عن تداعيات ذلك، فالمناطق التي لم تخرج عن سيطرة النظام يطفو على سطحها أشخاص ومجموعات يتسترون بالولاء والوطنية لتبرير ما يمارسونه من انتهاكات وارتكابات. وممارسات هؤلاء لا تقل خطورة على حياة المواطن ومستقبل الوطن عن ممارسات أقرانهم في المناطق التي خرجت عن سيطرة الحكومة. وتنعكس تداعيات تلك الممارسات بأشكال سلبية على الروابط الاجتماعية والوطنية. ويتقاطع ذلك مع: نكوص السوريين إلى انتماءات قبل وطنية لتأمين بعض من الأمن والاستقرار وتجاهل أطراف الصراع أهمية الربط بين منظومة حقوق المواطنة ومفهوم الوطنية. ومعلوم أن التمسك بالانتماء الوطني يُشكّل المدخل الرئيس لمواجهة نزعات ما قبل وطنية، ويحافظ على كيانية الدولة ووحدة المجتمع. ولضمان ذلك يجب تكثيف الجهود من أجل التوافق على مخرج سياسي ينهي الصراع ويضمن وحدة سورية أرضاً وشعباً.
* باحث وكاتب سوري