ومن لم يكن ينفع معه التذكير بتلك الحقائق، تصعب مناقشته في المغزى العميق لحقيقة أن حرب تموز قوضت النتائج الاستراتيجية لحرب حزيران. في تلك الحرب استكمل جيش العدو احتلال فلسطين وأجزاء من سوريا ومصر. ولكن ما هو أكثر أهمية، تمثل أساساً في متابعة تظهير صورة عن عربي مهزوم لا يحسن القتال، وجيش إسرائيلي أسطوري لا يعرف الهزيمة. وعن دولة عدوانية تستطيع أن تفرض إرادتها في المنطقة بمجرد التلويح باستخدام القوة. كانت وقائع كثيرة (معركة الكرامة 1968، حرب تشرين أوكتوبر، المواجهات مع المقاومة الفلسطينية) تواجه تكريس تلك الصورة، لكن تقويضها الفعلي تم في تموز/ يوليو 2006. فما فعلته المقاومة في هذه الحرب، لم يكن متمثلاً فقط في منع جيش الاحتلال من تحقيق أهدافه وهو ما يعتبر انتصاراً فعلياً، بل تمثل في تقييد الأداة العدوانية وكبحها. وبالنظر إلى طبيعة دولة الاحتلال، فإن «تقييد» الدور هو أكبر من هزيمة.
في كتاب العزير تتبع
للدور الذي أدته خطابات «السيد» في الحرب
ما بني على نتائج تلك الحرب شكل وقائع عنيدة لا يمكن إنكارها. لكن البعض لا يزال مقيماً في منطقة التساؤلات والجدال، رافضاً أن يقر حتى بما يعترف به الإسرائيليون أنفسهم، وفي مستويات مختلفة.
من هنا تأتي أهمية الكتاب الذي أنجزه الصحافي اللبناني الزميل علي العزير وأصدره بالتزامن مع الذكرى العاشرة لانتصار تموز، معنوناً بـ«الحق ما اعترف به الأعداء» متتبعاً بلغته الصحافية الرشيقة الاعترافات الإسرائيلية عن «حرب المفاجآت» وصولاً إلى ما اختتم به تقرير «لجنة فينوغراد» للتحقيق في إخفاقات الحرب، الذي نص على أن اللجنة وجدت «تقديراً غير صائب لقوة إسرائيل، وتقديراً ناقصاً لقوة العدو وذلك على مستوى المؤسستين السياسية والعسكرية على حد سواء» وفي ما يبدو استحضاراً للحديث الصحافي عن تقويض نتائج حرب حزيران 1967، قال تقرير «فينوغراد»: «هذه عيوب من شأنها أن تكون مصيرية».
العزير، الذي صدر كتابة بذكر وقائع شخصية عن طفل عايش هزيمة عام سبعة وستين، ناظراً إلى مذياع خشبي مركون في زاوية قصية، يبث ما «يرسم كآبة على وجوه الكبار ويترك الغضب مسيطراً عليهم» هو ذاته الذي عايش شاباً حرائق الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والتقى في آواخر حزيران/ يونيو من العام نفسه، لأول مرة في حسينية بلدة تمنين التحتا السيد حسن نصر الله، والذي تكلم يومها في ندوة صغيرة «بهدوء وثقة. تفادى التقنيات الخطابية المألوفة. بدا أقرب إلى أستاذ في علم المنطق، قارب الإشكاليات بوضوح وجرأة. طرح حلولاً يصعب التشكيك بصوابيتها، ثم شكر وأثنى بتواضع يشوبه خجل العارفين».
«السيد» الذي كان يومها «الأصغر بين إخوانه المتحدثين» هو ذاته الذي صار يصغي إليه الجميع كلما تحدث، وصار على الأعداء ترقب كل ما ينطق به. لأنه «يتكلم بصدق وثقة معاً». وهو من أنهى ذلك الانطباع النمطي عن خطابية الزعماء العرب، الذين يقولون كلاماً كثيراً. وقل ما يفعلون.
في كتاب العزير تتبع للدور الكبير الذي لعبته خطابات «السيد» في الحرب وبعدها. وللأثر الذي خلفته عند الأعداء. فقد «اقتحم عمق الوعي الجماعي لأعدائه» وبلغ «أن يتمنى الناس في المعسكر المعادي لو أن بين زعمائهم من يشبهه، ولو أن بوسعهم الاطمئنان إلى طروحاتهم بقدر ما يثقون بوعوده». والكتاب الذي صدر عن مطبعة العطار (بيروت) في طبعة أولى بمئتي صفحة، (تموز 2016). ليس مجرد استذكار لوقائع معركة حاسمة، بل هو أيضاً مساهمة في مواجهة المحاولات المستمرة
لـ «تطويق النصر».
* إعلامي فلسطيني