كل عام في مثل هذه الأوقات يضعنا النصر الذي حققه حزب الله بعد حرب قاسية خاضها ضد العدو الإسرائيلي عام 2006 أمام كشوفات جديدة. فالنصر لم يكن عابراً أو ساذجاً في السياقات الأخلاقية والمعرفية والتاريخية والاستراتيجية، ولم يكن نصاً مغلقاً وناجزاً بعد انتهاء الأعمال الحربية بل كان يقدم نفسه بنحو متواصل ويفرض تحقيباته الزمنية داخل مجريات الأحداث وتطوراتها ومعادلاتها. وخطابات السيد حسن نصر الله التي يدأب على إلقائها في المناسبات المهمة تحمل في العادة توسعات وتعبيرات تتيح بدورها التعرّف إلى أبعاد هذا النصر في اتجاهات ومسارات تتطلب من المتابعين والمحللين إعادة تكوين منهجي للحدث التاريخي الذي وضع حدّاً فاصلاً بين زمنين. أحدهما يستوي على "النكبة" و"النكسة"، والآخر على أملٍ واعدٍ وتطلعٍ فائضٍ ينبثق من شعار: "ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات". وبعيداً عن الفئة التي تعمل على خط التشكيك في بدهيته وصحته وذلك على العكس تماماً مما يقوله قادة العدو الإسرائيلي، وما أفصحت عنه لجنة "فينوغراد"، فإنّ النصر وفي ظل التطورات الحالية على مستوى المنطقة كلها والتحولات القيمة داخلها يحيلنا على مجموعة من المعطيات والدروس العميقة، ولكن لو أردنا ربطه في السياق الإسلامي "اللاهوتي" وفي إطار الأعمال التي تقوم بها الحركات الإسلامية الجهادية الناشطة على امتداد العالم الإسلامي لأمكننا الخروج بملاحظات كثيرة نشير إلى ثلاث منها:
أظهر حزب الله بنصره هذا أنّه يرفض
الفكر التسليمي

أولاً: إنّ هذا النصر بخلفيته الدينية الواضحة شهد "عودة الله"، بحسب بعض الأدبيات الغربية، بعدما أوهم الحكام العرب جماهيرهم بأنّ الله "مات"، وأن لا إمكانية لدحر العدو الإسرائيلي بسبب تفوقه في المجالات العسكرية والاقتصادية والعلمية ودعم الولايات المتحدة الأميركية له، وهي التي أصبح العالم كله طوع يديها، وتملك الغلبة في حسم الصراعات لصالحها، واليد الطولى في أقدار ومصائر الشعوب. فمقتضى الواقعية التسليم بوجوده والتعامل معه على قاعدة أنّه عدو لا يقهر، وأنه لا سبيل للمواجهة طالما أنّ ميزان القوى لا يميل لصالح العرب والمسلمين، ولا بديل سوى الإقرار بالهزيمة والتفاعل مع الوقائع الحاكمة في إطار الحفاظ على ما تبقى من مكاسب. من هنا يظهر تأكيد الأمين العام لحزب الله على البعد الديني للنصر من باب إعادة تفسير وتحليل العلاقة بين القوة والقيم، وأنّ النصر لم يتحقق على أساس مقاييس القوة وحدها على أهميتها، بل لا بد من ربطها بمعاني وعناصر إيمانية وعقائدية كان العقل المادي قد همّشها واستبعدها من معادلات الصراع.
ثانياً: أظهر حزب الله بنصره هذا "إسلاماً ثورياً" يرفض الفكر التسليمي التواكلي. في هذا النصر وقعت المدرسة الإسلامية السكونية في حرج شديد، فالفكرة الموهومة عن المصير المحتوم الذي لا يتغير انهدم مع ضربات المقاومين التي نزلت على رؤوس الصهاينة. المصير في المدرسة الثورية يتولد من تفاعل إرادتين، إرادة الإنسان وإرادة الله. معنى ذلك أنّ لدى الإنسان قدرة على تشكيل واقعه وتحقيق مصيره في الدنيا، والله هو الذي يضيء له مساره ويمدّه بالقوة الكافية لبلوغ أهدافه. بهذا المنظور يعيد حزب الله بناء التصورات والمعايير بحيث لا ينفصل البعد الأرضي عن البعد السماوي، ولا تترسخ فضيلة الزهد كحالة عجز وتخل عن قضايا الناس والأمة.
ثالثاً: استطاع حزب الله تجاوز العقبة المنهجية في الحفاظ على الثورية والعقلانية في آن واحد. الثورية لم تأخذه إلى الشطط السلوكي والعنف الأعمى والتوحش الأسود والعصبية المذهبية، بل ظلت الثورية في المشهد اللبناني المحلي، في إطار الدفاع عن الوطن بكل مكوناته، وفي المشهد الإسلامي، في إطار الدفاع عن فلسطين ومنع الاستعمار من رسم خريطة جديدة للمنطقة على وحي الفتنة والتقسيم. على عكس النماذج الجهادية الأخرى التي انتشرت على نطاق واسع داخل العالم الإسلامي وشكّلت أرثوذكسيات إسلامية متشددة يغلب عليها النزعات الإطلاقية والتعصبية ودوغمائيتها في فهم النصوص الدينية وأولوياتها في ممارسة الحكم وإنتاج العنف وبناء الخيارات التي تغلّفها بستار من القداسة وكأنها متولّدة عن وصايا إلهية قطعية الصدور، في وقت نجد أنّ المعايير الإنسانية تقيّد عقل حزب الله في جميع نشاطاته وممارساته وكل موقف يصدر عنه وكل حرب يخوضها تحيل بالضرورة إلى مستويات مترابطة من المصالح الوطنية والمقاصد الإسلامية.
في نصر عام 2006 يتبيّن أنّ حزب الله لم يبدد وهم الحكام بعدمية المواجهة مع الصهاينة فحسب، بل هزّ أركان إحدى المدارس الإسلامية الصامتة المحايدة إزاء كل ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي، والتي غيّبت الله عن الميادين والساحات وسيّجته بمعتقداتها وإسقاطاتها، وسجنته تحت قباب التكايا والمساجد، وكشفت زيف مدارس إسلامية أخرى اتخذت من دماء المسلمين طريقاً للعبور إلى مشروع يريد فتح العالم بالإكراه وبالحرب الشاملة على الكفار الذين لا يشاركونها القناعات والإيمان ذاته، فيغيب الله كإله للرحمة والمحبة ويحل مكانه آلهة للقتل يعيدون تكوين الهوية البشرية والحياة الدنيوية والأخروية وفق معايير وتصورات محددة ونهائية. هذا النصر في أحد اتجاهاته يقول إنّ الله حاضر بلا ظلم، وقوي بعدل، ورحمته تسع الجميع!
* كاتب وأستاذ جامعي