لا صوت فاعلاً لـ«الشعب» في لبنان. ما يخرج من أصوات لا يعدو كونه صدى يتلاشى في الفضاء كدخان السجائر. مفهوم «الشعب» في هذا البلد لا يُعبّر عن كتلة بشرية متجانسة في الانتماء والثقافة والوعي. لا ذات وروح وهوية وذاكرة ولغة واحدة له. «الشعب» في لبنان بناء وهمي غير موجود في السياق التاريخي والاجتماعي. هذا اللفظ الذي يستخدمه السياسيون ليس له علاقة ببيان حقيقة الشيء المعرَّف. استعماله له صلة بحركة الانتفاع والتوظيف والاستغلال في إطار الصراعات والمنافسات السياسية. ولطالما تساءل الناس في هذا البلد عندما يتلفظ السياسيون بهذه الكلمة عن المراد منها. هل تقصدون بـ«الشعب» نحن، كلّنا، أم شيئاً آخر يتخبط الجميع حياله في ظلام!ما هو موجود ليس شعباً بكامل الصفات وتمام الشروط، وإنما كائنات بشرية تعيش ضمن عوالم منعزلة وجغرافيات منغلقة ولو لم يكن الانتقال منها والمرور فيها يحتاج إلى جوازات سفر. فما تتطلبه حركة الدخول والخروج هو تأشيرات نفسية وثقافية، وسمات تربوية وتعليمية، وأذونات سياسية ودينية ليست متوفرة حتى يتمكّن اللبنانيون من العيش على أرض واحدة. يتنفّسون هواءً واحداً، ويتطلّعون إلى حياة مشتركة تستقرّ فيها نفوسهم على حلول نهائية لأزمات وجودهم العميقة!
المحازبون أعضاء في قبيلة الحزب والهوية الحزبية أقوى من الهوية الوطنية

في لبنان الشعب هو الطائفة. الانتماء هو للطائفة. لا شعب خارح حدود الطائفة، لا حبّ إلا لأبناء الطائفة. مَنْ يستحق أن يكون في المناصب العليا في الدولة هم أبناء الطائفة. من يجب الدفاع عن حقوقهم هم أبناء الطائفة. لا وجع يستحق الاكتراه له إلا عندما يكون وجع الطائفة وأبنائها. لا مطالب محقة إلا المتعلقة بالطائفة. هذا هو المناخ المهيمن على وجودنا ككائنات قد استوطنت هذا البلد. هذه هي الحياة المعيبة والمهينة التي نعيشها منذ الاستقلال الذي نحتفي به بلا أفق وطني ومواطني، وبلا هوية إنسانية واحدة.
لا قضية تجتمع عليها كل الطوائف. لكل طائفة قضية خاصة بها. الدفاع عن لبنان في وجه العدو الإسرائيلي من مختصات طائفة. ملف اللاجئين السوريين والفلسطينيين موكول لأخرى، نزع سلاح المقاومة تهتم به ثالثة، وهكذا لكل واحدة من الطوائف مجراها المنفصل في مشاهدة الحياة ومعاينة مشكلاته وأزماته وأحواله.
لا قضية مطلبية واحدة عادلة لها علاقة بتأمين الكهرباء والماء أو رفع مستوى التعليم والاستشفاء أو إزالة النفايات يمكن أن تنفع في معالجة حالة التبعثر المسيطرة على سلوك اللبنانيين فتوحّد فيهم النظر إلى القضايا التي تمسّ وجودهم ومصيرهم وحاضرهم ومستقبلهم.
لقد شبّ اللبنانيون على قاعدة «طرائق قدداً» لم يتربوا في المدارس والجامعات على لبنانية القضايا المطلبية، وأنّ كل همّ مطلبي هو همّ اللبنانيين جميعاً، وأنّ كل مكروه يصيب لبنانياً يصيب بدوره كبد اللبنانيين من أصغرهم إلى أكبرهم. والأحزاب التي يفترض أن تتميز بأفكارها فتعمل على تحليل الأوضاع المأزومة ثقافياً وسياسياً وتفكيك المفاهيم والسياسات الخاطئة واستبدالها بمقاربات علمية ووطنية تقفز من خلالها على الاتجاهات والمواقف والمعتقدات والمصالح الطائفية الخفية والمعلنة، نجدها تتعامل مع القضايا الداخلية إما بسطحية وخفّة وإما بخلفية انتهازية استغلالية لإدامة وجودها في السلطة.
الأحزاب في لبنان لم تساهم في تغيير الوعي الاجتماعي والسياسي وفي تفسير أهداف التغيير لجهة إنتاج ظروف أفضل بحيث يتمتع جميع اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية بالمساواة والعدالة والحرية وبنموذج حكم متحرر من الطائفية والإرادة الزعامتية الأبوية الفردية إلى نظام المؤسسات والقوانين التي ترعى المواطنين على أساس مبدأ الحقوق والواجبات.
الأحزاب لم تشكل رافعة لتغيير «الذات الطائفية»، بل كانت في ممارساتها تعبّر عن معاداتها لتغيير الواقع الطائفي وإحلال نظم وقيم اجتماعية وسياسية جديدة. على سبيل المثال، الأحزاب في لبنان لا تثقف المنضوين إليها للنزول إلى الشارع وكسر التحالفات الطائفية ومواجهة رموز الفساد والدفاع عن الحقوق والقضايا المطلبية. لا نزول إلى الشارع إلا إذا كان التهديد يطال الحزب ومصالحه. لا تفاعل مع مطالب أي فرد لبناني ولو كانت كل القوانين الدولية والإنسانية والسماوية تقرّ بها، إلا إذا أمرت قيادة الحزب. المحازبون أعضاء في قبيلة الحزب. الهوية الحزبية أقوى من الهوية الوطنية. وأسس التضامن بين الأحزاب محصورة بمعادلات وحسابات براغماتية شديدة الصرامة، لذلك هي لا تتم ولا تجرى على أساس وعي عام تلقائي ديناميكي تفاعلي. فلو انقطعت الكهرباء أو المياه مدة زمنية طويلة، لن ينزل المحازبون إلى الشارع إلا إذا حصل إيعاز من قبل القيادة. ولو تعرّض أهل منطقة لكارثة طبيعية أو عدوان خارجي أو لحقت المظلومية عمالاً أو مزارعين أو نحو ذلك من المآسي والنكبات الأمنية والاجتماعية، فلن نجد الأحزاب تجتمع على رأي واحد فتدعو المنتسبين إليها للتضامن والتوحّد والقيام بما يمليه عليهم الضمير الإنساني والوطني والديني. الأمر لا علاقة له بالانضباط الحزبي، بل بالترويض الفكري والعاطفي الذي لا يسمح بولادة ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية تجعل الكرامة الفردية مساوية للكرامة الحزبية والوطنية.
يتطلب مشروع النهوض بالوطن إخراج مفهوم «الشعب» من اللفظ المبهم الى اللفظ الدال. ومن مادته الطائفية والإثنية التي لا يمكن تجنّبها إلى الفكرة السياسية والموقف السياسي التي لا نرى أنّ الأحزاب تساهم في تحقيق ذلك، بل على العكس تعمل على تقييد الواقع وحركة الناس بالانتماءات المقفلة.
تقف الأحزاب اليوم مفضوحة، فلم تعد طريقاً للتغيير وتعزيز الإجماع الأخلاقي والإنساني حول القضايا المطلبية المحقة. هناك هوّة عميقة بينها وبين الناس وهي اليوم أضعف وأعجز من أن تقود حركة إصلاحية وأن تُوكلَ إليها مهمات التحديث، والناس كذلك، حيث يصعب تحريرهم من العلائق والأغلال الطائفية والزعامتية التي يبجّلونها. وأحسن فولتير عندما قال: «الخلاف الطويل يعني أنّ كلا الطرفين على خطأ». وهذه تماماً حال اللبنانيين مع زعمائهم وحاكميهم!
* كاتب وأستاذ جامعي