تلعفر، مثل أربيل وكركوك، هي من المدن التركمانية التي أسسها العثمانيون لتكون حصوناً وحاميات، وسكناً لفئات موالية للدولة في مناطق حدودية قلقة، أو نقاط استراتيجية مهمة، أو على طرق المواصلات والبريد. تلعفر، من هذا المنظور، تقع في عنق ممرٍّ إجباري للقوافل (والجيوش) التي تعبر الطريق التاريخية بين الموصل وحلب، وهي تحمي سهل نينوى من غربه. هذا التراث العسكري ظلّ له أثرٌ في تلعفر، التي صدّرت الكثير من الضباط الى الجيش في عهد صدّام حسين، وصولاً الى اليوم، إذ أنّ نسبةً غير متوازنة من قادة «داعش» وضبّاطه وشرعيّيه هي من تركمان تلعفر، وفي الوقت ذاته، فإن التركمان المعادين لـ«داعش» (وأكثرهم شيعة) هم من أفضل مقاتلي القوات العراقية (ويتركّزون بشكلٍ خاص في الشرطة الاتحادية)، والكثير منهم يقطع الكيلومترات الأخيرة اليوم، في وحدات الحشد الشعبي، في اتجاه مدينته.
الطريق إلى تلعفر

معركة «دابق» الحقيقية تجري اليوم في الموصل. لا يمكن شرح وتفصيل كلّ الأطراف والشخصيات والمصالح التي تشارك في المعركة في مقال، ولكن يكفي تعداد الجيوش التي احتشدت، منذ أسابيع، على أطراف سهل نينوى: اضافة الى «داعش»، الأميركيون هناك، والجيش التركي، والبشمركة، والجيش العراقي، والحشد الشعبي؛ وكلٌّ يحاول أن يشكّل المعركة كما يريد. هل تذكرون التصريحات الأميركية التي كانت تقول إن معركة الموصل ستستغرق أشهراً؟ وإنها تحتاج الى تحضير جيشٍ جديد، وقيادة أميركية؟
من هنا أهمية ما حصل خلال الأيام الماضية في نينوى، وهو ما يتجنب الإعلام شرحه (أو فهمه). باختصار: القوات الكردية تعثّرت في بداية هجومها، وتلقّت خسائر وقُتل معها جنود أميركيون، ولم تتقدّم فعلياً منذ بدء المعركة. فيما جلّ المناطق التي حُرّرت، في الشرق والغرب والشمال، وقعت تحت سيطرة الجيش العراقي ــــ الذي دخل المدينة من شرقها البارحة ــــ والحشد الشعبي، الذي قطع بالأمس أحد آخر طرق الإمداد بين الموصل والرقة وأصبح على مشارف تلعفر. فوق هذا، فإنّ أكثر هذا التقدّم حصل بعد أن قرّرت واشنطن ابطاء الهجوم بعد خسارة البشمركة، وأعلنت تجميد العملية والقصف. بحسب بيانات «التحالف» الرسمية، فقد نفّذ الأميركيون ومن معهم طوال الأسبوع الماضي، ابتداءً من 28 تشرين الأول حين أخذت القوات العراقية بالتقدّم وكسب الأرض، ما مجموعه الكلّي 17 غارة جوية في منطقة الموصل، كان تأثيرها الوحيد على المعركة قتل عشرات المدنيين.
بالمعنى العسكري، كان الهدف الذي وُضع أمام القوى المتجهة الى تلعفر، لكلّ من نظر إلى الخريطة قبل أسبوعين، يبدو خيالياً. بين قاعدة القيّارة الجوية ومدينة تلعفر أكثر من مئة كيلومتر، خلف خطوط العدو وفي قلب معقله (بينها، كما قال ابو مهدي المهندس، مناطق ووديان لم يدخلها أي جيش منذ عام 2003). وأن تفتح طريقاً اليها بينما جناحاك معرّضان للهجمات فيه خطورة كبيرة ويستغرق في العادة وقتاً طويلاً للتأمين والتثبيت. الحشد الشعبي وصل الى تلعفر، وحرّر معظم سهل نينوى الغربي، في أيّام قليلة؛ بينما قوات البشمركة، و«مستشاروها» الأميركيون، ما زالت تراوح مكانها في بعشيقة، والجيش التركي سجين معسكره (قارن، بين الخريطتين، التقدّم الذي تحقق خلال يومٍ واحد في الطريق الى تلعفر).

واشنطن في نينوى

لا يمكن لأحد أن يتخيّل الخطط والطموحات التي رُسمت للموصل في السنة الماضية، وما كان سيحصل ــــ وكم كانت ستستغرق المعركة ــــ لو أنّ الحرب سارت بحسب الإعداد الأميركي لها. وسياسيّون عراقيون ما زالوا يطالبون بغزوٍ تركي، وقادة من البشمركة يلمّحون بشكلٍ علني الى فتح طريقٍ آمنة لانسحاب قوات «داعش». ولكن المعركة لها منطقها الخاص، وأحداث الميدان تجبّ السياسة. فعلياً، الأميركيون والأتراك والبشمركة هم خارج المعادلة العسكرية والتأثير على الأحداث، والبغدادي في تسجيل جديد ــــ بعد صمتٍ دام قرابة العام ــــ يستصرخ جنوده بأن لا يفرّوا من مواقعهم، ويلوم «الصحوات» و«المرتدين» الذين، في رأيه، تسبّبوا بالهزيمة في سوريا والعراق، ويحمل على السعودية وتركيا (معترفاً، ضمنياً، بوجود تفاهم سابق بينه وبين الأتراك بعدم التعرّض لـ«داعش» مقابل الامتناع عن التخريب في الداخل التركي).
يمكن القول بأنّ الأميركيّين قد أساؤوا التقدير على أكثر من مستوى، ولم يفهموا أن أدواتهم في العراق لم تعد فاعلة كما كانت الحال عليه عام 2003 (يختارون شخصاً يناسبهم، فيعيّنوه ويصير قائداً). كمثالٍ على ذلك، كتب رياض محمّد تحقيقاً وافياً عن الشخصية التي أرادت واشنطن «اسقاطها» على قيادة معركة الموصل، وجعله في ما بعد حاكماً للمدينة. الفريق نجم الجبوري هو ضابطٌ في الجيش السابق تعاون مع الأميركيين بعد الغزو وتعرّف من خلال عمله على الجنرال هربرت ماكماستر. ثمّ «فرّ» من موقعه في تلعفر عام 2008، حين اشتدّت خطورة الأحداث، وطلب اللجوء مع عائلته في واشنطن. أوصى به ماكماستر ليحصل على وظيفةٍ في مركز دراسات أميركي، ثمّ ادّعى حصوله على شهاداتٍ عليا لم يحزها؛ ومع ذلك تمّت إعادته الجيش ــــ والعراق ــــ فجأةً من واشنطن عام 2015، وبعد سبع سنوات من «اختفائه» في تلعفر، وعُيّن مباشرةً قائداً لمعركة الموصل (رغم انعدام خبرته العسكرية، وماضيه الملتبس، ونظرة أقرانه العراقيين اليه كـ«جندي فار»). من غير المستغرب أن يتمّ تحييد أمثال نجم الجبوري من قبل أترابه وتجاهله، خاصّة وأنّ المعركة، على مدى سنتين، قد أبرزت قادةً حقيقيين وفاعلين في الجيش العراقي، كالجنرالات فاضل برواري، قائد الفرقة الذهبية (وهو كردي وعراقي وطني، بالمناسبة)، وعبد الغني الأسدي الذي كان، مع رجاله، أوّل الداخلين الى مدينة الموصل، وعبد الوهاب الساعدي الذي قاد معركة الفلوجة، وغيرهم الكثير في رتبٍ أدنى.
الأساس هو أنّ أميركا لا تجول في العراق وسط مجتمعٍ مهزومٍ ميتٍ، يمكنها أن تفرض عليه ما تريد، بل إنّ فيه قوى حقيقية ــــ من الجيش الى فصائل المقاومة الى مواطنين عاديين صارت لهم ثقافة سياسية ومناعة، ولا يعيشون عقلية الهزيمة ــــ تنازعهم على مصير البلد ومستقبله.

علامة على المستقبل

ما يحدث في العراق يثبت عدّة أمور. كما قال لنا صديقٌ جزائريّ عن تجربة بلاده خلال العشرية السوداء، فإنّ سلاح السلفيين هو إرهاب المجتمع وصدمه عبر العنف الفائق، والاستعداد للتوحّش وتصعيد الشراسة من غير حدود. ولكنّهم، ما أن يواجهوا خصماً محلياً صلباً، لا يخيفه اسرافهم في القتل، وهو مستعدٌّ للمزايدة عليهم في لعبة العنف، حتّى يتراجعوا وينكفئوا وينهزموا بسهولة ــــ وهذه قصّة تحرير العراق في الأشهر الماضية.
أمّا الخطاب الإعلامي العربي، فمن الممكن أن ندعه وشأنه؛ من جهةٍ لأنّ من احترف التحريض لا تهمّه الوقائع والناس، فمن يقول إنّ مشكلته اليوم هي مع الحشد الشعبي، وأنّه «حشدٌ شيعي» (أتمنّى رؤيتهم يكررون هذا الكلام أمام آلاف المقاتلين من صلاح الدين الذين دخلوا الشرقاط منذ أسابيع)، كان، هو نفسه، يقول بالأمس ــــ حين لم يكن هناك حشد شعبي ــــ إن الجيش العراقي هو المشكلة، وهو «جيش المالكي» و«جيشٌ شيعي». سيستمرّ الخطاب نفسه على الدوام، وإن بحججٍ مختلفة. من ناحيةٍ أخرى، فإننا لم نعد في مرحلة التنبؤ، ومن يتكلّم على «إبادة» وتطهير عرقي عليه أن يُظهر دليلاً على ذلك بعد أشهر من تحرير أغلب مدن العراق، وأن يرينا «التغيير الديموغرافي» الذي طرأ عليها. حتّى في الحديث عن الجرائم والقتل الانتقامي، لا يهتمّ هؤلاء بحقيقة المشاكل التي يواجهها العراقيون، بل بترداد الـ«كليشيه» التحريضي فحسب. فلا يفهمون، مثلاً، أنّ التحدي الحقيقي في مرحلة ما بعد "داعش" هو في عمليات الانتقام بين العشائر المحلية، وآثار الحرب الأهلية التي أشعلها التنظيم بين أبناء المدينة الواحدة، ورفض الكثيرين لعودة من يعتبرونهم أعداء وقد صارت بينهم ثارات ومجازر (في تلعفر مثلاً، يعود التركمان الذين هجّرهم «داعش» ليواجهوا جيراناً لهم اضطهدوهم وسرقوا أرضهم ومنازلهم، فالخطر على هؤلاء ليس من ابن الحلّة).
مع ذلك، ما زلت أصادف ــــ على الدوام ــــ صديقاً أو زميلاً، لم يُظهر يوماً اهتماماً بالعراق من أيّ نوع، ولا بصيص فضولٍ أو معرفةٍ، ولا يقدر على تمييز السماوة من زاخو، ولكنّه يقدّم لي، بثقة، جملةً ايديولوجية أو شريطاً أو قصاصة تلقّاها عبر الإعلام الخليجي، هي دليله الوحيد إلى المعركة. ليس كلّ نقاشٍ وراءه طائل، ولكن لمن يقلقه «الحشد الشعبي»، فالقصّة يمكن تلخيصها على النحو التالي: هؤلاء الناس، تحديداً، هم فقراء العراق وأهل الريف الذين ظلّوا مهمّشين منذ ولادة العراق الجمهوري. باستثناء ومضاتٍ قليلة (كما بعد ثورة الـ58)، لم يكن لهم يوماً صوتٌ ولا تأثير، وهم دفعوا ثمن كلّ الهزائم والحصار والخراب. هي الفئات التي احتقرتها النخب العراقيّة ومثّلتها بالقوّة، وفُرضت عليها فرضاً بعد عام 2003 وهم يصرخون بأنّهم لا يريدونهم. وكلّما حاول هؤلاء رفع صوتهم أو التسلّح والاحتجاج، كانوا يقمعون بشراسة ــــ كما حصل في مدينة الصدر عام 2008 ــــ وسط تأييد البرجوازية العراقية وتهليلها. هؤلاء الناس، للمرّة الأولى في تاريخهم الحديث، صاروا منظّمين ومسلّحين وهم بمئات الآلاف. اللعبة خرجت من يد أي كان، وهم لن يعودوا إلى الصمت مجدّداً. لهذه الأسباب كلّها، حريّ بالكثير من الناس أن يخيفهم الحشد، فرجاله لن يدخلوا نينوى وتلعفر فحسب، بل هم يقتحمون التاريخ وسيغيّرون عالمهم بأكمله.