في كتابه عن النقد الأدبي عام 1709، كتب الشاعر الانكليزي ألكسندر بوب Alexander Pope: «قليل من العلم خطير جداً» A little knowledge is a dangerous thing. وكان يقصد بذلك أولئك الذين حصّلوا قليلاً من العلم فتاهت عقولهم زهواً وافتخاراً، مقارنة بمن درس وأفلح فزادت حكمته وزاد وقاره وتواضعه. ولكن دول الغرب الاستعماري قلبت معنى العبارة واعتبرت في سعيها إلى الهيمنة العالمية أنّ اي محاولات من جانب الدول النامية لتحصيل المعرفة والخبرات هي خطر يجب نحره في مهده.

نهضة العرب حقيقة تاريخية

في حال العرب في العصر الحديث، أي منذ أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن تحصيلهم للعلم ضئيلاً يدفعهم إلى التيه، بل كانت لهم نهضة أدبية علمية بدأت في أواخر القرن التاسع عشر وتحديداً من القاهرة وبيروت ثم من حلب ودمشق والموصل وبغداد، وانتشرت في القرن العشرين في أنحاء العالم العربي فازدهر الفكر القومي العلماني في مصر وبلاد الشام.
وبالفعل نهضت العلوم والمعارف في مجموعة دول هي: مصر ولبنان وسورية والعراق ولحقتها في الستينيات الجزائر وتونس. وبالطبع فقد حققّت مجموعة دول عربية أخرى تقدماً في المعرفة والتربية والاقتصاد وذلك بفضل الريع النفطي الذي سمح بالاستثمار في التعليم كما في السعودية ودول الخليج وليبيا.
المطلوب أن لا يكون
للعرب طاقة بشرية
مستقلة وخبيرة
والفارق أنّ مجموعة الدول الأولى زادت على العلوم والمعارف التطور المدهش في السينما والقصة والشعر والمسرح والطباعة والصحافة والتكنولوجيا والصناعة والزراعة. وكذلك في إنشاء الأحزاب ذات الطابع القومي العلماني أو الاشتراكي أو الماركسي اللينيني. فيما رواحت مجموعة الدول الثانية مكانها في اقتصاد ريعي تبَعي ضمن خطاب فكري تقليدي وأحياناً سياسي ديني لم يسمح بولادة ثقافة حداثوية.

التصنيع ممنوع

مجموعة الدول العربية الأولى التي أنتجت قدرات علمية، خطت قدماً فطوّر العراق الطاقة الذرية وفاز بجائزة الأونيسكو في محو الأمية عام 1982، وازدهرت صناعة الأدوية في سورية وصناعات بديلة من الاستيراد ومنتجات زراعية. وفي سورية والعراق كما في مصر والجزائر بات المواطنون ينعمون ببرامج اجتماعية وتربوية وصحية لفتت أنظار الخبراء الدوليين. وأثبتت الأيام أنّ العرب يمكنهم التطور والتمدن والاختراع والاكتشاف العلمي وإنجاز درجات عليا في الموسيقى والفنون والسينما والتلفزة.
من ناحية أخرى، ومنذ الستينيات، أدمنت الدول الصناعية الكبرى ومعها مجموعة الـ24 على النفط oil guzzlers لأنّ رفاهيتها ارتكزت إلى السيارات والأدوات المستهلِكة للطاقة، كالبيوت الفخمة والمكاتب والسيارات الكبيرة والمسابح واليخوت والطائرات والتدفئة في كل أوان ومكان، وكذلك آلية التصنيع الضخمة من آلاف المصانع المنتشرة من وادي نهر الراين في ألمانيا إلى ضواحي ديترويت، الخ. فكان المطلوب سياسياً واستراتيجياً تأمين مصادر النفط بأرخص الأسعار وبخاصة من المنطقة العربية.
وكانت الدول الصناعية الكبرى تريد وضع اليد على النفط العربي لقاء عمولة تمنحها لحكومات عربية محلية موالية لها. ولقد تم هذا الأمر خلال عقود من الزمن امتدت منذ أوائل القرن العشرين واكتملت في الخمسينيات. فسيطرت الشركات السبع الكبرى على مصادر النفط، وفي المقابل قامت الحكومات التابعة للغرب بفتح الأسواق للصناعات الغربية التي غرقت بالسلع الاستهلاكية الكمالية، من سيارات وألبسة ومجوهرات وأجهزة الكترونية وعطورات، إضافة إلى منح هذه الحكومات العربية الشركات الغربية كافة مشاريع البنية التحتية ومنشآت القطاعين العام والخاص، حتى باتت مدن الجزيرة العربية كالرياض ودبي والدوحة تشبه كثيراً مدينة هيوستن تكساس النفطية في أميركا.

ويل لأمة

دول المجموعة العربية الأولى التي لا ينفي المرء أنّ للاستعمار الغربي يداً في قيامها أيضاً، كانت كالولد المشاغب الذي يجرؤ على تلقي المعارف وولوج الصناعة والسعي إلى الاكتفاء الذاتي في الغذاء واعتماد سياسة خارجية مستقلة ضمن الظروف، كما فعلت سورية منذ الستينيات وحتى اليوم، وفعلت مصر في عهد عبدالناصر فقط.
أن تسعى دول عربية إلى التصنيع وبناء بنية بشرية متعلمة هو أمر خطير جداً أضرّ بمصالح الدول الغربية الكبرى، ويجب ترويض هذه الدول واعتبارها مارقة وضربها لتبقى تابعة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ومعرفياً كدول المجموعة الثانية. لقد حذّر مفكران من جبل لبنان من ويلات التبعية وفقدان السيادة الوطنية بعدما شهدا ما حصل في الحرب العالمية الأولى في لبنان وسورية. وهما جبران خليل جبران وأنطون سعاده. فأثناء الحرب العالمية الأولى شهدا كيف مات ثلث سكان لبنان من المجاعة فلاما التمزّق الديني الداخلي والحصار الغربي والحكم التركي، وكتب أنطون سعاده: «كنت حدثاً عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914 ولكني كنت قد بدأت أشعر وأدرك. وكان أول ما تبادر إلى ذهني، وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بما شعرت وذقت ما ذقت مما مني به شعبي، هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟». كما كتب جبران: «ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين، ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر».
فالأمن الغذائي هو بمثابة السلاح الاستراتيجي الأول الذي على كل دولة تحافظ على سيادتها أن تسلكه. وليس اكتشافاً مذهلاً أنّ الدول الصناعية حريصة على علومها واختراعاتها وصناعاتها بدءاً من فنجان قهوة ستار باكس وحتى الصاروخ وطائرة ركاب بوينغ. فنكهة دجاج كنتاكي هي من الأسرار الاقتصادية وكذلك تركيبات الكوكاكولا والبيبسي، وصولاً إلى الأدوية التي قد يبلغ ثمن العبوة منها 500 دولار، ما جعل شركات الأدوية الغربية الأكثر ربحية وثراءً في العالم. ولا يجري التساهل بثمن أي من السلع باسم مساعدة شعوب الدول النامية، حتى متى بدأت سورية في تصنيع أدويتها بتقنية ونوعية جيدة وأسعار منخفضة، جرى عقابها بشكل سافر. وتعكف استخبارات الدول الغربية على مراقبة التقدم العلمي والتقني والاقتصادي للدول النامية، وتتهيّب عواصم الغرب من أن تحقق هذه الدول تقدماً، لأنّ ذلك يشكّل خطراً على شبكة التجارة العالمية وميزان المدفوعات وأسعار العمولات وأسواق البورصة.
هكذا تكوّنت المعادلة منذ خمسين عاماً أنّ اكتساب العرب للعلوم والمعارف ولو بدرجة قليلة هو خطر تجب مواجهته إن لم يكن بالحسنى فسيكون بالحرب التي تريد تفكيك الدول العربية كسورية والعراق وتدميرها. والجانب الآخر من المعادلة هو دفع الدول العربية إلى انتاج النفط وإغراق السوق بكميات متزايدة منه وهو مفيد جداً للغرب. لقد جرى فعلاً تدمير العراق وسورية وليبيا واليمن وجرى خلال الأعوام الثلاثين الماضية البحث عن العلماء السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين، وعن المخترعين والمهندسين والمتفوقين العرب لاغتيالهم في منازلهم أو في أي مكان تطاوله أيديهم. والمعلومات متوافرة عن قيام مرتزقة داعش والنصرة وأخوتهم بقتل العلماء واصحاب الاختصاص في حلب وحمص والموصل وبغداد. إذ المطلوب أن لا يكون للعرب طاقة بشرية مستقلة وخبيرة. الدول مصالح نعم، والغرب يقوم بما يخدم مصالحه، وكذلك تفعل الصين وروسيا وإيران وإسرائيل وغيرها. ويبقى أن يرى العرب أنّ مصالحهم السياسية والاقتصادية والحضارية هي أن يتصالحوا ويعملوا معاً للعودة إلى النهضة الصحيحة التي أطلقها أجدادهم قبل 150 سنة.
* أستاذ جامعي ــ كندا
** صحافي ــ ألمانيا