أن تجعل وعدك للنّاس مقتصراً على "النّصر القومي" و"عزّة الأمّة" يوازي، تماماً، أن تعدهم بالحوريّات في الجنّة علي قدري

في دراسة له عن "المسألة الكرديّة"، يحاجج سمير أمين بشيوع نظرة "ليبرالية" مثالية عن الهويّة والقوميّة لا تراها كتشكيلات تاريخيّة، بل تربطها بفكرة "تقرير المصير" وتجعلها "حقّاً مطلقاً"، طبيعيّاً (يتقدّم في العرف الدولي، يقول أمين، على حقوق العمل والأمن وغيرها). بمعنى أنّه يمكن لأي جماعة في أيّ مكان، مهما كبرت أو صغرت، أن تدّعي أنّها جماعة هويّة، أو أمّة، وأنّ لها خصائص تميّزها ولغة أو ثقافة، وأنها مقموعةٌ وممنوعة من تحقيق ذاتها، وسيتمّ النّظر اليها على قدم المساواة مع القوميّة الألمانيّة. على الهامش، هذا المنهج "المثالي" والحقوقي سيصطدم دائماً بجدارٍ منطقي حين يتمّ تطبيقه على أرض الواقع: السّردية القومية التركية ستتعارض مع السردية القومية الكردية، مثلاً، والقومية الكردية، نفسها، تخفي تمايزاتٍ واختلافاتٍ وجماعات ــــ كالايزيديين والظاظا، الخ ــــ لها ايضاً مطالبها وثقافتها وهويتها، وهكذا دواليك. فيكون دعم حركات "التحرّر القوميّ" من المنظور "المثالي"، على الدّوام، عمليّة اختيارٍ وتحيّزٍ ايديولوجي، بين جماعةٍ وجماعة وسردية وسرديّة، وليس دعماً مطلقاً لـ"حقّ تقرير المصير".
يقترح أمين بدلاً من ذلك أن نرى القوميّات، ببساطة، كحركات نخبٍ مدينيّة صعدت في عصر الرأسماليّة ضمن ظروفٍ محدّدة، وكردة فعلٍ على حركاتٍ مشابهة، وكإجابة على تحدّيات تاريخية. القوميّة التركيّة، مثلاً، خرجت من نخب المدن الروميليّة (روميليا هي الحوض المكوّن من الساحل الغربي لتركيا والساحل الشرقي لليونان، وكانت ذات يومٍ عبارةً عن وحدةٍ جغرافية وبشرية، تتفاعل فيها مدن اسطنبول وإزمير وتسالونيكي. وحتّى بعد تهجير الأتراك من اليونان، ظلّت نخبة تسالونيكي ــــ ومنها مصطفى كمال ــــ ذات تأثير كبيرٍ في السياسة والمجتمع في تركيا، خلال حرب الاستقلال وبعدها)؛ وكانت ردّة فعلٍ على صعود القوميات في البلقان والأقاليم العربية ــــ ولم يكن الفلّاح التركي في الأناضول، "موضوع" القومية التركية، له علاقة بكلّ هذه "الرّواية" أو مشاركاُ بها في بداية القرن. القوميّة الكرديّة بالمثل، يحاجج أمين، أخذت طابعاً مكتملاً و"حديثاً" مع هجرة الأكراد الى المدن التركيّة، وتكوينهم لطبقةٍ مدينية كرديّة، احتكّت بالقوميين الأتراك وبالرأسمالية الحديثة.

القومية والعالم الحديث

لو نظرنا الى القوميّات، اذاً، كحركات تشكّلت في عهد الامبريالية، يقول أمين، فإنّ تفاعلها مع القوى العالمية والامبريالية لم يكن متشابهاً، ولا يمكن فهم تطوّرها ونظرتها الى العالم وباقي الشعوب من دون هذه الملاحظة. هناك قوميّات تصعد في بلادٍ مستعمَرة، لتحارب القوى الأوروبية وهي تعرف أنّ استقلالها يرتبط بمواجهة النفوذ الخارجي وتدعو عادةً، يقول أمين، الى نظامٍ يعدل بين الشعوب ويؤمّن استقلالها. هناك ايضاً حركات، كالقومية العربية في بداياتها، تنظر الى الامبريالية كحليفٍ محتمل يساعدها على تحقيق دولة (وقد دفع العرب ثمن ذاك الخيار بعد الحرب العالمية، يضيف المفكّر المصري، استعماراً وهيمنة غربية استمرّا بشكلٍ مباشرٍ لعقود، وبأشكالٍ مختلفة الى اليوم). وهناك، من ناحيةٍ أخرى، قوميّات ــــ كما في البلقان ــــ قامت الامبريالية بـ"تحفيزها" وتوليدها وحضانتها. هذه الأمور تتغيّر مع ظروف التّاريخ ايضاً، يقول أمين: القومية التركية في بداياتها كانت معادية للامبريالية بوضوح، تحضّر لتحالف مع روسيا وترى الغرب كعدوّ دائم وسلوكها تصالحي تجاه الأكراد. ثم تحوّلت، في الاربعينيات، الى التّحالف مع القوى الغربية واستبدال التحالف مع روسيا والقوى الآسيوية بالطموح لبناء دولة على نمط "اوروبا الغربية" (وهو وهمٌ مستحيل، يؤكّد أمين). العروبة أخذت الاتّجاه المعاكس، فبعد نسختها "الشريفية" المتعاونة مع الغرب، أصبحت القومية العربية حركة راديكالية ترى نفسها في تعارض مباشر مع قوى الإستعمار وتحاول بناء دولٍ مستقلّة. ثمّ، ابتداءً من الثمانينيات كما يقول علي قدري، استسلمت هذه النخب القومية أو انهزمت عسكرياً، وأصبحت جزءاً تابعاً من النظام العالمي، على نسق حكم السادات، تشرف أنظمتها على عملية اللبرلة والتنازل السياسي ــــ فخسرت العروبة جمهورها ومعناها التحرّري.
لهذه الأسباب لا يمكن إصدار أحكام قاطعة وشموليّة، أو من خارج أي سياق، ضد القوميّة العربيّة مثلاً، واعتبارها ـــــ بطبيعتها وبالضرورة ــــ حركةً "تحررية" أو "صنيعة استعمار". هذا مع التأكيد على ضرورة تفكيك خرافة "الثورة العربية"، وقد آن أوان تقديمها على حقيقتها ونقد الأنظمة التي انبثقت عنها. يكفي أن يقرأ أيّ عربي المراسلات بين حاكم المحمّرة (الشيخ خزعل) وابن الصّباح من جهة، وبين الجيش البريطاني من جهةٍ أخرى، قبيل غزو العراق خلال الحرب العالمية الأولى. المسألة ليست في "الخيانة" وتسابق الشيوخ على اقتراح مواقع للإنزال البريطاني، أو هروع الشيخ خزعل لابلاغ القائد الغازي بتحركات القطع العثمانية، بل بمقدار التذلّل في هذه الرسائل، وكيف كان الشيخان يهرقان كرامتهما أمام العثماني والبريطاني، ويكذبان وينافقان من غير تورّع (هذه شخصيات "ثوار"؟). من الممكن ايضاً استعادة المشهد الذي يرويه علي الوردي عن نوري السّعيد، وهو واقفٌ الى جانب ضابط بريطاني في الهند، يخطب في الأسرى العرب في معسكر اعتقال (يضمّ أسرى الحملة العراقية)، ويغريهم بالحريّة والحظوة اذا ما انضمّوا الى الثورة وجيشها. يقول الوردي إن أقلّ من واحدٍ من عشرة جنودٍ رضي بأن ينضمّ الى البريطانيين، وأن يقاتل ضدّ رفاق سلاحه وضبّاطه.
حتّى هؤلاء، يضيف الوردي، انكفأ أكثرهم وطلب العودة للإعتقال حين حطّت سفينتهم في جدّة، واكتشفوا أنّ أكثر النّاس فيها (من مختلف أرجاء العالم الاسلامي) يعادون "الثورة" بشدّة، و يقرّعونهم ويلعنونهم في الشوارع، ولا يصدّقون بأنه في وسع مسلمٍ أن يقاتل مع المحتلّين الأوروبيين ضدّ الخلافة. حجّة الشريفيين يومها، بأنّه لا جدوى من الدفاع عن بناء يتهدّم، لم تجد صدىً في صفوف العامّة، ولم يفرض النظام البريطاني نفسه وشرعيته في العراق الّا عبر القوة والقمع. على الرغم من ذلك، هناك تيّار متعاظم في الغرب والعالم العربي يمتدح، تحديداً، هذه القومية العربية "الأولى"، ويطرح استعادتها، بل ويوصّفها بـ"العروبة الليبرالية" (لا أفهم ما هو الليبرالي فيها باستثناء التبعية للغرب؛ هل كان الشريف حسين ليبرالياً؟ ساطع الحصري ليبرالي؟ نوري السعيد ليبرالي؟).

سقوط الدول، صعود الدّين

حين سقطت الدولة العربية الاشتراكية، و"استقالت" من محاربة الامبريالية وحماية مواطنيها من عاديّات السوق ومطامع الخارج واستغلال الدّاخل، كما يشرح علي قدري، خسرت "المواطنة" معناها ومعها كلّ حركات الهوية التي يمكن أن ترعاها الدّولة. لا وجود للمواطنة أو للوطنية خارج الدولة، وحين تصبح "الدولة الوطنية" أداةً لطبقة، ومسهّلاً لاستغلال الخارج، تخسر مهامها وتضمحلّ (يكتب قدري أنّ الدولة العربية استقالت حتى من انتاج احصاءاتٍ ومعطياتٍ وافية عن اقتصادها، حتّى تعرف ماذا يجري داخل حدودها، وتترك الأمر لمنظمات دولية. هذا بعد أن كان العراق وسوريا ومصر تنتج نماذج اقتصادية بالغة التفصيل والتعقيد، فالدولة كانت تحتاج الى هذه المعطيات لأنها تدير الاقتصاد ولديها خطة ومشروع).
ترافق صعود الحركات الدينيّة والطائفية مع سقوط الدولة الوطنية وتجزئة المجتمع وتدمير الطّبقة العاملة، وهذا يفسّر لماذا قامت كلّ حركةٍ عربيّة شعبية منذ أربعين عاماً، من دون استثناءات تقريباً، على قاعدة دينية أو محليّة. اليسار، بالطبع، لم يملأ الفراغ، فهو امّا كان ممثّلاً في الدّولة، أو متصالحاً معها، أو مقموعاً منها. حتّى في حالة الأنظمة القوميّة، منذ الثمانينيات، لم يعد دعم النظام في سوريا والعراق، مثلاً، يساوي دعماً لمشروعٍ وحدوي تحرّري يتقدّم، أو يساهم في تقويض الامبريالية، بل مجرّد دعمٍ لطبقات حاكمة ومستفيدة. لم تعد "الوطنية" بمعناها "الرسمي"، أصلاً، إطاراً يصلح لبناء حركةٍ تحررية أو تقدّمية، بعد استلاب الدّولة واختراقها (من هنا، أصبحت "الوطنية"، في لبنان ومصر والأردن وغيرها، حجّةً مناسبة للترويج لخياراتٍ رجعية وانعزالية ومحافظة، بدلاً من أن تكون شعاراً تقدمياً وجامعاً).
تجد في النقاشات العربيّة موقفاً يتلخّص في أن يشير أحدهم بإصبعه، بتذاكٍ، الى الواقع الطّائفي القائم، ويعتبر أنّه هكذا قد قدّم حجّةً أو نقداً. المشكلة هي أنّه لا يمكنك أن تقرأ الواقع خارج سياقه التاريخي. كما يقول صديقٌ عراقيّ، لو أنّ صدّام حسين استمرّ على نهج اسلافه الناصريين والبعثيين، وانشغل بالتنمية وتوزيع عوائد النفط، وظلت الناس تتعلّم وترتقي وتتحسّن أوضاعها، لما كان عاقلٌ من الشيعة سيفكّر بالتّماهي مع حركةٍ طائفيّة، ولما كان مذهب الرئيس مشكلة عند أحد. على الضفّة الأخرى، هناك الموقف العلماني "الجذري" الذي يطالب الحركات الشعبية العربية بالمستحيل: أن تخرج حركات علمانية أو وطنيّة أو "عمّالية" من مجتمع مفكّك، تخلّت عنه الدولة وتركت أفراده في العراء ومعزولين عن بعضهم البعض. يوهمونك بأنّ الحوثيين أو ابناء "حماس" و"حزب الله" كانوا، في زمن تشكّلهم، أمام خيارٍ حقيقي بين مشروعٍ مدني تقدمي وطني وآخر ديني، فاختاروا الدين والطائفة. هؤلاء النّاس كانوا متروكين، لا نظام يرعاهم، حياتهم بلا قيمة، ويتعرّضون للعدوان المتزايد من الدّاخل والخارج. الدّين، وشخصيّات كحسين الحوثي ومحمد صادق الصّدر، أعطت هذه الجّموع هويّة وإسماً وشعوراً بالانتماء الى جماعة، ومشروعاً يتنظّمون في إطاره ويدافعون به عن أنفسهم، وهي كانت ــــ في ذاك السياق ــــ الإمكانية التاريخية الوحيدة.

الهوية والمقاومة

في إطار العلاقة مع الامبريالية، فإنّ ما جرى على الحركات القومية يجري ايضاً على الحركات الدينية، ولا يمكن الحديث عنها بالإجمال (كونك مسلماً لا يعصمك عن أن تكون عميلاً). الحركة الطائفية الشيعية في العراق، مثلاً، ظلّت حتى أواخر السبعينيات في مجملها رجعيّةً، تمثّل مصالح نخبٍ طائفية ضيّقة، تعادي التأميم والاشتراكية، وقريبة من الشاه والسعودية. الحركة الصدرية في المقابل، وهي حصيلة سنوات الحصار وانهيار الدولة، كانت عراقية وطنيّة ومعادية بشدّة لأميركا. أمّا "فصائل المقاومة" التي خرجت من رحم الاحتلال، فالكثير منها متأثّر بالثورية الخمينية. وبين الاسلاميين السّنّة ايضاً، نجد أنّ الحركات التي تعطي أولوية حقيقية لمفهوم الجّهاد والدّفاع والعداء للغرب، كـ"القاعدة" و"داعش"، اجتذبت الجماهير وعواطفهم (بغضّ النّظر عن صحّة ادعاءاتها أو نتيجة سياساتها) أكثر بما لا يُقاس من الحركات التي تفضّلها حكومات الخليج، أو موجة "الإسلام الأميركي". ووسائل الإعلام التحريضي السّعودي، كـ"صفا" مثلاً، تقضي يومها في ذمّ "النّصرة" و"داعش"، وتسميتهم بالخوارج، وبالدعاية للتنظيمات الفاشلة التي ترعاها الرّياض في سوريا وغيرها، ومن دون نتيجة. تنظيمات "الإخوان" المسلمين، بالمثل، حين قرّرت الانحياز الكامل الى جانب وكلاء الامبريالية في المنطقة، ومحاولة "الاستفادة" من الغرب والتعويل على رضاه، تحوّلت من حركات شعبية لها امكانات ومشروع الى مجرّد تنظيماتٍ تابعة لدول صغيرة، يستبدلها السلفّيون في الميدان ــــ من سوريا الى اليمن ــــ وتقلّصت نخبتها الى سياسيّين وكتّاب، يكفي أن تقطع دولة قطر التمويل عنهم حتّى ينطفئوا ويختفوا.
"الامبريالية" ليست مجرّد "شيء"، حلفٍ غربيّ مهيمن نحارب ضدّه، بل هي نمط انتاجٍ وناظمٌ للعالم وجزءٌ من روح العصر. كلّنا، بمعنى ما، نتاجٌ للامبريالية (من النّظام الفاسد الى "داعش"). "كيف تعيش في هذا العالم" هو سؤالٌ له إجابات متعدّدة، ولكنّها يجب أن تنطلق من فهم الوضعية التاريخية لنا، وليس عبر طواطم كـ"العلمانية" و"القومية" و"الدولة"، توظّف مزايدةً، أو خارج كلّ سياق. فلا أغرب من مشهد العلماني العربيّ "المتطرّف"، الذي لا يملك من الحداثة الغربية غير اللباس والكرافات، والإسلامي اليوم أكثر امتلاكاً للتقنية منه، وأنجح منه في التنظيم والسياسة، وأقدر على بناء المؤسسات؛ ولكنّ "العلماني"، من منفاه الأجنبي أو من داخل فقاعته في البلاد، يؤمن بثقةٍ وصدق أنّه أفضل من المتديّن، وأقرب منه الى الحداثة، ويقف على الجانب الصحيح من التّاريخ.