تُثار في هذه الأيام العصيبة، ومن وقت لآخر، مسألة العلمانية وضرورتها كمكمّل لمسألة الديموقراطية. وقد رأينا محاولة في الفترة الأخيرة لثائر ديب عبر مقالته في جريدة «السفير» اللبنانية تحت عنوان: «الديموقراطية علمانية بالضرورة». وديب في هذه المقالة يقدم بوضوح ومن دون دوران نقداً للطروحات التي قدمتها التيارات الرئيسية للقوى السياسية المعارضة في سوريا، والمتأسلمة منها، وللتيارات السياسية العربية عموماً.
فعندما يتقدم الإخوان المسلمون بمشروعهم السياسي قبل أكثر من خمسة عشر عاماً وتحت شعار «المراجعة» ونبذ العنف، يطرحون شيئاً يسمى «الدولة المدنية» بديلاً للشورى وللدولة الديموقراطية. هنا يأتي نقد ثائر ديب ليفنّد هذا التهرب من الاستحقاق الديموقراطي بحجة الدولة المتأسلمة «المدنية» التي تعمل ضمن حدود «شرع الله». والمدنية المتأسلمة ليست في الواقع أكثر من فئات بورجوازية صغيرة غمرها طغيان التأسلم السياسي المدعوم بأموال قطرية وسعودية والمرحب به من قبل دوائر الثقافة الإمبريالية التي غضّت الطرف عنه في محاولة لتوظيفه لاحقاً، بشكل مضاد للتقدم التاريخي.

لم يعد الحديث عن ديموقراطية الدولة وعلمانيتها يخصّ الدولة البورجوازية


ليس ما يعيب نقد ثائر ديب، بيان تهافت فكرة «الدولة المدنية»، ولا محاولته بيان ضرورة ربط الديموقراطية بالعلمانية، بل ما يعيب طرحه هو أنه يتناسى الربط الأكبر، وهو ضرورة الربط بين الديموقراطية والاشتراكية. إن غياب الربط بين الديموقراطية والاشتراكية/ الماركسية في عصرنا، يعني معالجة مسألة الديموقراطية والعلمانية خارج سياقها التاريخي، وخارج البيئة التي تحتضنها والتي تتمثل بالعصر الإمبريالي/ الرأسمالي تحت قيادة النظام الأميركي الذي تكرست قيادته للنظام الإمبريالي بعد حربين عالميتين. فوجود هذه البيئة المعينة يفترض تحليلاً للديموقراطية والعلمانية يأخذ بالاعتبار فك الارتباط بين الديموقراطية والليبرالية البورجوازية في العصر الإمبريالي، وبالتالي بات من واجب الاشتراكيين الماركسين التنبه إلى أن المسألة الديموقراطية باتت مهمة «اشتراكية» بحكم هذه الشروط العالمية الجديدة. ونضرب مثلاً على ذلك أن التصنيع الروسي والصيني في القرن العشرين، ومعه التحديث كفعل ديموقراطي، أُنجز بفعل ثورات اشتراكية بقيادة بروليتاريا متحالفة مع الفلاحين والطبقات الكادحة الأخرى. وهو عكس ما حصل في القرن التاسع عشر في نصفه الثاني عندما أنجزت البورجوازية الضعيفة في كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان، التصنيع والوحدة القومية (كأفعال ديموقراطية) متحالفة مع القوى القديمة كاليونكر في ألمانيا البروسية على سبيل المثال. إن طرح الديموقراطية في معزل عن الاشتراكية/ الماركسية في العصر الإمبريالي/ الرأسمالي يعني تماماً تحويل الديموقراطية إلى نوع من أنواع الاحتيال الطبقي، وإلى خداع الوعي الاجتماعي. فضرورة الاشتراكية للديموقراطية كضرورة العلمانية للديموقراطية، هذه نقطة.
والنقطة الثانية، هي واجب نقد نظرية تشارلز تايلور، التي يستشهد بها ثائر، بخصوص وجود زمنين: واحد دنيوي والآخر ديني، واحد أفقي، أي معاصر، والآخر «قديم» أو عمودي خارق لمراحل التاريخ. الحق أقول لكم: لا يوجد سوى زمن واحد معاصر إمبريالي/ رأسمالي يعيد إنتاج العقائد الدينية بما يخدم مصالح الطبقات البورجوازية في المراكز الإمبريالية الرأسمالية والبورجوازيات الرثة المتخلفة في الأطراف الرأسمالية. ذلك أنه لا تاريخ للدين، وما الدين سوى عقائد محمولة على أوضاع اجتماعية اقتصادية متجددة باستمرار ومشروطة بالعصر وبالاقتصاد السياسي لكل دولة. فنحن لا نستطيع الحديث عن الإسلام وكأنه كينونة قائمة بذاتها في السماء، ولكننا نستطيع الحديث عن إسلام تركي وإسلام إيراني وثالث تونسي ورابع جزائري. فحتى الإسلام في فترة ازدهاره كان يختلف فيه إسلام «زمن» حكم عمر عن إسلام «زمن» حكم معاوية، فما بالك بالفرق بين إسلام «النمط الخراجي» وإسلام «الزمن البورجوازي الطرفي والزمن الإمبريالي» في فترة انحطاط الحضارة البورجوازية.
لقد جرت مناقشات كثيرة بخصوص علمانية الدولة. لكن الأمر المهم أنه لم يُدقَّق في طبيعة هذه الدولة: أهي دولة بورجوازية أم اشتراكية؟ وكان البديهي أن الحديث عن الدولة الديموقراطية هو حديث في نفس الوقت عن الدولة البورجوازية، لأن الديموقراطية ارتبطت تاريخياً بالبورجوازية زمن صعودها حتى كمونة باريس 1871. لأنه من بعد هذا التاريخ لم تعد البورجوازية تقدمية بالمعنى التاريخي تحت ضغط صعود البروليتاريا كطبقة بديلة، ولدخول الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية وظهور النظام الإمبريالي. إذاً، لم يعد الحديث عن ديموقراطية الدولة وعلمانيتها يخصّ الدولة البورجوازية فقط، بل بات ينسحب على الدولة الاشتراكية. وبات مطلوباً انتقاد الدولة الاشتراكية اللاعلمانية أو الملحدة فترة حكم ستالين التي مارست قمعاً للحريات الدينية، واللاديموقراطية، والتي مارست قمعاً للحريات السياسية ولحرية المشاعر القومية. عندما تكون الدولة الاشتراكية ملحدة، فهي دولة دينية بشكل سلبي أو مقلوب تقمع المعتقدات الدينية المناهضة للإلحاد، تماماً كالدولة المسيحية أو دولة الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى. على الدولة الاشتراكية أن تكون ديموقراطية تجاه المشاعر القومية وتجاه خصومها البورجوازيين، وعليها أن تخلق الشرط الاقتصادي الاجتماعي والفكري الذي يحرم البورجوازيين كل فعالية مضادة للتقدم التاريخي، وعليها أن تكون علمانية بأن تضمن حرية الاعتقاد الديني للجميع بمن فيهم الملحدون... وأن تخلق الشروط الاجتماعية الاقتصادية التي تجعل أي إسهام للدين في السياسة أمراً بعيد المنال. هكذا تحرم خصومها استخدامَ الدين كقوة مضادة لها، وهكذا تضمن الدولة الاشتراكية/ الماركسية الديموقراطية والعلمانية، وهكذ يكون مبرراً طرح فكرة علمانية الدولة الاشتراكية.
* كاتب سوري