«النّاس العقلاء والأذكياء يسكنون هنا، ومعهم كلّ الثروة الماديّة. الحكماء والقدّيسون يدرّسون هنا. الأخلاق الحميدة تسود هنا. الشعر، النثر، الطّقوس والموسيقى تؤدّى هنا. الابتكارات التقنية النافعة تتم تجربتها هنا. النّاس في بلادٍ بعيدة مُعجبون بنا ويتعلّمون منّا. البرابرة يقلّدون كيف نفعل الأمور. فلماذا، يا جلالتكم، تتخّلون عن هذه المرتبة الرفيعة لتقليد لباس الأجانب؟»
القرن الرّابع قبل الميلاد ــــ الأمير تشِنغ، عمّ الملك في دولة «زاو» الصينية، ينتقد اصلاحاتٍ عسكريّة استلهمها الملك من جيوش البدو الرحّل

ما زال لأسماء تاريخية مثل بلخ ومرو وبخارى وسمرقند وقعٌ في الذاكرة الشرقية، وإن لم يعرف الكثير من الناس اليوم، بالضبط، موقع هذه الحواضر المندثرة.

هذه المنطقة تحديداً، وعقد المدن التي نشأت على طريق الصين بين جبال الهندوكوش ونهر آموداريا (سيحون)، هي بمثابة «شريحة ذاكرة» تختزن جزءاً أساسياً من تاريخنا. هذ الاقليم من وسط آسيا هو بمثابة «ممرٍّ» حضاري، تقاطع طرقٍ بين الصين والهند والشّرق الأوسط، انتقلت عبره الجيوش والأديان وبضائع لا تحصى. عبر هذا الممرّ انتقلت الديانة البوذية من الهند الى الصين، وانتشرت المانويّة والزرادشتية، ثم أتى الإسلام. في هذه المدن تجاورت الأعمدة الإغريقية مع فنونٍ صينية وأقمشة فارسية ومعابد هندية. كانت العملات الذهبية التي تسكّها مملكة كوشان البوذيّة، في القرن الأول للميلاد، تحمل صورة الملك من جهة، وعلى الجهة الأخرى قد تجد «الاله السومري نانا، أوالالهة الفارسية اوادو واتاش، أو شيفا وفاسوديفا من الديانة الهندوسية، إضافة ـــــ بالطبع ــــ الى بوذا».
ولكنّ القصّة تبدأ قبل ذلك بكثير، مع أوّل تبادلٍ منظّم بين الصين والعالم الخارجي، قبل أن تنشأ البنية التحتية لما صار يسمّى «طريق الحرير»، وقبل أن يبني الرهبان البوذيون، انطلاقاً من الهند، سلسلة من المعابد والأديرة، ويحفرون الكهوف في الجبال، لتكون أوّل لبنةٍ على طريق التواصل التاريخي بين أرجاء آسيا. يقول المؤرّخ الصيني زينرو ليو، في كتابه «طريق الحرير والتاريخ العالمي» (منشورات أوكسفورد)، إنّ بداية الدينامية البشرية في الكتلة الأوراسية كانت مع اكتشاف الإنسان لأدوات الزراعة والحراثة الأولى. انقسمت القارّة عندها الى جزئين، تفصلهما سلاسل الجبال الكبرى في الوسط (كالقوقاز وآلتاي). جنوب هذه الجبال قامت مجتمعات زراعية ومدنٌ كبيرة ومؤسسات ادارية وممالك، فيما أسلوب الحياة شمالها ظلّ رعوياً بدوياً تنتقل فيه العشائر، دورياً، من رعي قطعانها في الجبال صيفاً الى السهول والوديان (كمنطقة بلخ ووسط آسيا) خلال الشتاء.
بحلول القرن السادس قبل الميلاد شاع ركوب الخيل بين رعيان السّهوب الآسيوية، وبعدها بقرنين أتقنوا مزج الفروسية مع استخدام القوس والنشاب من على صهوات الجياد، فأصبحت هذه القبائل المتنقّلة قوّة عسكرية مُهابة. في هذه المرحلة، لم تكن الصين موحّدة بعد، وكانت مؤلفة من سبع ممالك زراعية، يكتب ليو، من بينها ثلاث في الشمال تجاور الأقوام البدوية في منغوليا ووسط آسيا. بنت هذه الممالك ثلاثة أسوارٍ على حدودها الشمالية لحماية نفسها من غزوات البدو، تحوّلت في ما بعد، حين وصلها ببعضها موحّدو الصين من سلالة تشين، الى «سور الصين العظيم». لم يكن الصينيون يعرفون يومها بالتحديد ماذا يوجد شمال هذه الأسوار، وكان غرب الصين ووسط آسيا بالنسبة اليهم منطقة أساطير، لا أحد متأكداً من وجودها، ناهيك عن الشرق الأوسط والهند والمتوسّط.
في القرن الرابع قبل الميلاد، قرّرت مملكة «زاو»، إحدى الممالك الشمالية هذه، أن تقلّد أسلوب الفرسان البدو في القتال، فقامت بإعادة تشكيل جيشها وتدريبه على ركوب الخيل. المشكلة هي أنّ المجتمعات الزراعية لا تملك مراعي واسعة، ولا تقدر على انتاج الخيول، فكان لا بدّ من شرائها من العشائر البدوية. من هنا، على البوابات التي تخترق سور الصين العظيم، قامت محطّات تجارية وأسواق يأتيها الصينيون والبدو الرحل للتبادل والشراء، فتبيع القبائل للتجار الصينيين ومندوبي الدولة خيولاً وقطعان مواش، وتشتري في المقابل حريراً وحبوباً. هذه التجارة على بوابات السّور كانت الشرارة الأولى لـ»طريق الحرير»، وانفتاح آسيا على نفسها.
كان الحرير السّلعة الأهمّ لدى الصينيين، إذ لم يتمكّن أحدٌ من منافستهم في انتاجه حتّى أتقن المسلمون صنعته في العهد العبّاسي (حاول البيزنطيون قبلهم، لقرون، ولم يتمكنوا من توطين صناعةٍ ناجحة لدود القزّ ونسيجه)، وكان الرومان في البداية يعتبرون أنّ الحرير ينمو على شجرةٍ، أو هو قطنٌ تتم معالجته بطريقةٍ خاصّة. بين قبائل وسط آسيا ومنغوليا، كان للحرير أهمية ورمزية: صنع الصينيون أقمشةً خاصة من الحرير لزعماء العشائر البدوية؛ ففي برد السهوب، تصمّم السراويل والألبسة كألحفة السرير، بحيث تكون طبقةٌ خارجية تحشى بالقطن أو بمادّة عازلة تؤمّن الدفء لمن يلبسها. حين تكون هذه الطبقة الخارجية مصنوعة من الحرير، فهي تؤمّن لباساً خفيفاً وعازلاً للماء، إضافةً الى أنها تجعل الزعيم يبدو مميزاً عن باقي افراد القبيلة. من هنا، أصبح الحرير مطلوباً بشدّة من طبقات النخب والقادة في عشائر السّهوب.
يروي ليو قصّة زعيمٍ من قبائل «يويزي» (وهو شعبٌ بدوي كان يقطن غرب الصين) صنع ثروةً كبرى من تبادل الخيول والحرير. كان الزّعيم، واسمه «لوو»، يقود موسمياً آلاف الخيول ــــ وخيول «يويزي» كانت مفضّلة على الخيول المنغولية ــــ الى بوّابة من بوّابات السّور الصيني، فيبيعها مقابل كميات كبيرة من الحرير، ثمّ يعود بالحرير الى منغوليا ووسط آسيا، فيستبدل الحرير الصيني بقطعان من الماشية تفوق قيمتها عشرة أضعاف استثماره الأصلي. قبل توحيد الصّين، ايضاً، ظهرت عادةٌ اعتبرها الصينيون في ما بعد علامة إذلالٍ، ورمزاً لدونيّة الحضري أمام البدوي القوي والمسلّح. كانت سلالات الصين الحاكمة ترسل، بشكلٍ مستمرّ، أميراتها ــــ أو من يدّعون أنهنّ أميرات ــــ الى زعماء العشائر البدوية شمال السور كنوعٍ من «هديّة»، مرفقة بكميات كبيرة من الحرير والحبوب، على أمل أن يرضى عنهم رأس العشيرة، فلا يجتاح أراضيهم، وأن يولد يوماً ما زعيمٌ عشائري من أمٍّ صينية. أوقف أباطرة الـ»هان» هذه الممارسة المهينة فور تمكّنهم من موازنة البدو عسكرياً.
جاءت أوّل شهادةٍ صينية عن منطقة الغرب وأوزبكستان من مبعوثٍ أرسله امبراطور «تشين» الى بدو الـ»يوزي» غرباً، ليعرض عليهم تحالفاً ضدّ أقوامٍ بدوية أشدّ عنفاً في الشمال هم الـ»جيونغنو» ــــ أسلاف المغول. تقول المصادر التاريخية إن الـ»جيونغنو» كانوا يعدّون أكثر من 300 ألف فارسٍ يجيد استخدام القوس (هو فعلياً، يكتب ليو، كامل تعداد ذكورهم الراشدين)، فيما تجمّع الـ»يوزي» ضمّ ما بين 100 و200 ألف فارس. تمّ أسر المبعوث بعد أن عبر السّور بقليل، وظلّ في بلاط الـ»جيونغو»، ينتقل معهم ويرتحل، لعشر سنوات، تزوّج خلالها وأنجب أطفالاً، قبل أن يهرب من المعسكر ويتّجه غرباً لإتمام مهمّته الدبلوماسية. حين وصل الى مملكة «داوان» في أوزبكستان، أوصله حكامها الى قوم الـ»يوزي»، الذين كانوا قد هُزموا وانتقلت مضاربهم، جنوباً، الى منطقة بلخ. هنا، سمع المبعوث الصيني لأول مرة بروما وبمدن المتوسّط والهند، ثمّ عاد الى البلاط الصيني ليوثّق ويروي ما تعلّمه خلال رحلته (على طريق العودة تمّ اعتقاله من جديد، ولكنه قضى سنة واحدة في الأسر هذه المرة قبل أن يفرّ من خاطفيه).
في كتابٍ له عن تاريخ أوراسيا وطريق الحرير، يحذّرنا المؤرّخ كريستوفر بيكويث من تصديق الرواية التاريخية الشائعة عن العشائر والبدو (حتّى في هذه المرحلة المبكرة). حتّى عقودٍ قليلة، كانت نظرة المؤرخين الى العشائر تعكس نظرة أهل المجتمعات الزراعية اليهم، وتأريخنا للبرابرة هو من وجهة نظر الرومان، وتأريخنا للريف هو بعين المدينة. فكرة أنّ البدو الأوراسيين هم أقوامٌ محاربة، عنيفة، فقيرة، تعتدي باستمرار على هوامش الممالك، ليست دقيقة لأسباب عدّة. مثلاً، يقول بيكويث، لم يكن بدو السّهوب «فقراء» بمقاييس ذاك الزمن، كان بينهم أثرياء، وبينهم معدمون، وأكثر الناس هم في الوسط، يملكون قطعاناً وأرزاقاً، بينما الغالبية الساحقة من أهل المجتمعات الزراعية، بالمقارنة، كانت مكوّنة من عبيدٍ مسحوقين (سنرى في مقالٍ لاحق كيف أنّ البدو العرب، في المرحلة نفسها، كانوا من أثرى شعوب الأرض بفضل التجارة والبخور والقوافل).
وسّع حكّام سلالة الـ»هان» سور الصين غرباً، وجعلوا اسم بوّابته الغربية «باب اليشب» (اليشب في الصين التاريخية هو أثمن من الذهب، وكان يأتي من مدن الواحات في الصحراء الغربية ووسط آسيا)، فأصبح «باب اليشب» هو نقطة الدخول الى الصين، ومنطلق «طريق الحرير». سمع حكّام الـ»هان» بأنّ مملكة «داوان» في أوزبكستان تنتج أفضل خيولٍ في العالم. كانوا يسمّونها «خيول الجنة»، والأسطورة تقول إنها تزاوجت مع أحصنةٍ سماوية. حين رفض الملوك بيع الخيول للصينيين، أرسل الامبراطور أول جيشٍ صيني الى الغرب لاحتلال المملكة وأخذ الخيول بالقوّة. مع تراكم الصعوبات والخسائر، حاول الجنرال الصيني الانسحاب بجيشه، وحين وصل الى «باب اليشب»، أمر الامبراطور بإغلاق البوابة وقتل كلّ جندي يحاول عبورها. اضطر الجنرال الى الارتداد والقتال، حتى أخضع «داوان» وأحضر معه خمسة آلافٍ من «خيول الجنة» المميّزة، نجد اليوم تماثيلها المتقنة مدفونةً الى جانب أباطرة «هان» في قبورهم (يتبع).