لا يبدو التحرّر من المدعشة بهذه البساطة. المدعشة ليست حالة مخابراتية أو فكراً دخيلاً كما هي أمنية الكثيرين، بل هي جزء لا يتجزأ من الوعي الجمعي لشعوب تتشارك المفاهيم نفسها مع اختلاف في التفاصيل. تكفي معاينة صفحات التواصل الاجتماعي على خلفية حادثة حانة اسطنبول، ليتكشف الكم الهائل من الدعشنة في صفوف رواد الصفحات على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية لو صحّ التعبير.
المتابع للجدل يلحظ أنّ محور النقاشات تركّز حول صلاحية استخدام مفردة شهيد أو شهيدة في ما يخصّ ضحايا العملية الإرهابية في حانة اسطنبول، وهي نقاشات بدأت فيما كانت جثامين الضحايا لا تزال في مكان الجريمة وتوالت بعد نقل الجثامين وستستمر بعد دفنها. المشكلة لم تقتصر على المفردة التى يرى فيها غاضبون أنّها مصطلح شرعي له شروطه وشرائطه وهي من المراتب السامية التي لا يمكن أن تعطى إلا لمن يستحقها فعلاً، بل وصل الأمر إلى التعرّض للضحايا أنفسهم باعتبارهم قضوا وهم على مائدة الخمر وفي دار لهو ومجون.

في محضر الضحايا الشهداء لا يجدي إلا الصمت أمام رهبة الموت
حتى إنّ بعض رواد المواقع رأى أنّهم نالوا ما يستحقون كونهم من المفسدين في الأرض. إحدى المغردات كتبت: "ماذا يفترض أن نطلق عليهم؟ شهداء القنينة مثلاً؟" وكتب آخر: "هل أصبحت كلمة شهيد رخيصة إلى هذا الحد حتى نطلقها على رواد البارات؟". بينما تصدى آخر بانفعالية أيضاً ليعتبر الضحايا "شهداء ثقافة الفرح والحياة بين جموع لا همّ لها إلا نشيد الموت والقتل". وأضاف أحدهم "إنّ الحانة ليست إلا شيئاً لا يذكر، إذا ما قورنت بأنهار الخمر وبسيقان الحوريات وأسنان الغلمان التي يلهث خلفها المتدينون ويموتون في سبيلها". ولم يقتصر الجدل على التراشق اللفظي، بل وصل إلى حدّ نشر صور لضحايا الحانة كجثث نصف عارية في استهزاء فاضح بحرمة الموت وبشماتة معلنة. على الجبهة المقابلة، لم يتورّع الآخرون عن نشر ما استطاعوا نبشه من التراث الإسلامي المكتوب من أحاديث وسيرة وفتاوى مستهجنة ومستغربة طاولت تفخيذ الرضيعة، وصولاً إلى طريقة استعراض السبايا وتفحص أجسادهن من قبل صحابة وتابعين.
هل يستحق الأمر فعلاً كلّ هذا الكم من الانفعال والأحقاد المتبادلة؟
في مجتمع مدني متعدد الثقافات والانتماءات، لا يفترض أن تقوم أي شريحة اجتماعية بمحاكمة شريحة أخرى مختلفة وفقاً لمفاهيمها هي أو رؤيتها للعالم والكون. الدعشنة لا تنتمي بالضرورة إلى دين أو مذهب. الدعشنة طريقة تواصل مع الآخر، رؤية فوقية للمجتمع، توهم التواصل مع عالم غير مرئي أوكل إليها الإشراف على العالم وإخضاعه. من الواضح تماماً أنّ هناك طبقة تمارس هذه الممارسة وتتبناها في استعلاء فاضح وترفض أي مس بمفاهيمها تحت مسمى قداسة هذه المفاهيم. ولكي لا يفهم أحد مجرى الحديث في غير سياقه، فإنّ الجمهور الأغلب الذي وقف متصدّياً للمتدعشنين هو جمهور المقاومة بالذات. إنّ نظرة إحصائية على أعداد المغردين لا بدّ من أن تلحظ بوضوح حجم المشاركة الشيعية الكثيفة على صفحات التواصل وهي تصحح مسار البوصلة في اتجاهه الصحيح، رغم بعض أصوات النشاز التي أساءت وتسيء إلى حجم التضحيات التي قدّمها هذا الجمهور على مذبح الوطن وفي سبيل كل مكوّناته. فهل يستطيع المتدعشنون أن يفسروا لنا استبسال المقاومين في حماية كنائس حلب وصلبانها وأيقوناتها وأقبيتها، بما فيها من مخزون نبيذ؟ ألم يلحظ "حراس السماء" أن "بوست" نشره رجل ديني شيعي على صفحته تعرّض فيه لبابا نويل لم يصمد أكثر من ساعات، حتى عاد وسحبه وتبرأ منه ومن الصفحة ذاتها تحت الكم الهائل من انتقاد جمهوره هو بالذات؟ ببساطة شديدة وصراحة أشد، إنّ انتماء الجمهور لفعل المقاومة ولمعسكرها لا يعني أنّه يمكن جرّ الجمهور وبكل شرائحه إلى الأدلجة العقائدية، فهذا شيء آخر مختلف تماماً. وعلى من يحاول ممارسة السلطوية النظرية، وهي لم تخرج عن كونها نظرية، على طريقة معيشة الناس ومسلكهم ومشربهم، أن يعلم أنّه لن يستطيع فرض معتقده على الآخر وأنّ عليه أن يحترم الرؤية المغايرة ويتلقى دروساً في النسبية، فأبواب السماء لا يمكن لأحد أن يحتكرها ولا أن ينفي الآخر ويزجّه في خانات التكفير تمهيداً لسحقه وقتله. تستطيع تماماً أن تنبش في كتب تراثك فتوى قتل شارب الخمر وقتل المرتد وقتل الغراب وقتل الكلب الأسود وقتل ما يحلو لك، لكنك لن تستطيع أن تحلم بممارستها فعلياً على الأرض، فذاك زمن في طور الانقراض. لقد عرّت الداعشية تفاصيل كثيرة كانت مخبوءة في مكنونات "حراس السماء" وكشفت صفحات شديدة السواد من مسيرة تاريخية بائسة أودت بنا إلى المستنقع البائس الذي يستطيع أن ينتج دواعش بالملايين ليموتوا بعشرات الآلاف في سبيل شهوات مكبوتة طموحها الأقصى أكبر ماخور يمكن أن يتصوره عقل من أنهار خمر وأجساد عراة. ليس في الأمر أي عفّة، فالباحث في تاريخ الغزوات والفتوحات المقدسة لا بدّ من أن يصدمه حجم البذاءة التي يحفل بها هذا التاريخ، شأنه شأن أي تاريخ بدائي آخر ولا استثناءات.
في محضر الضحايا الشهداء، سواء كانوا مشركين أو موحدين أو عبّاد بقر، وسواء كانوا في محراب عبادة أو على مائدة خمر، لا يجدي إلا الصمت أمام رهبة الموت والتسليم لقضاء رب هو الحاكم وحده ولا يحتاج إلى شريك. نحن أبناء الوطن الواحد والحلم الواحد ليس لنا إلا عدو واحد وهو الجهل.
* كاتب لبناني