من الأمور الطريفة التي تتكرّر هي حين يزور أحدهم ايران للمرّة الأولى، ويمكث في شمال طهران في رحلةٍ تجارية، أو يلتقي بسياسيين من حلقة هاشمي رفسنجاني، فيعود مقتنعاً بأنّ النّخبة الايرانية الحاكمة على وشك التّصالح مع الغرب والتطبيع معه، أو يستنتج أنّ «الشعب الايراني»، كلّه، يعادي النّظام ويريد استبداله بكيانٍ علمانيّ فارسيّ على النمط الغربي. من يعتاد على السياسة العربيّة وعواصمها قد يصعب عليه أن يفهم كمّ المصالح والتيارات ومراكز القوى التي يجمعها النّظام الايراني، وتعدّد فئات المجتمع المتنوعة، المتعارضة، والتي لا تشبه بعضها البعض، وتشارك ــــ على مستويات مختلفة ــــ في عملية صنع القرار.
من يعرف الثورة الاسلامية ويعرّفها عبر شخصيّاتٍ كمصطفى شمران أو السيّد بهشتي، أو حتّى من تأثّر بكتابات علي شريعتي وجلال آل أحمد السابقين عليهما، من الصّعب عليه أن يستوعب وجود أفرادٍ كهاشمي رفسنجاني في قلب نظامها ــــ كما سيصعب عليه فهم وجود طبقاتٍ رأسمالية تتماهى مع الغرب في مجتمع «ثوري». ولكنّ رفسنجاني لم يكن ثانوياً في النظام الإسلامي أو خارجاً عليه، بل كان من أعمدته الأساسيّة، ومن بين قلّةٍ ظلّت على قيد الحياة من النخبة المؤسسة (وهو، مثل خامنئي وعلي ولايتي، لم يظلّ بيننا لأنه لم يتعرّض للاغتيال، بل لأنّه نجا منه)، وكان ــــ على الأرجح ــــ الشخصية الوحيدة في ايران في السنوات الأخيرة التي تنظر الى الخامنئي كنظيرٍ لا كمعلّم.

الثورة والأمّة

يعتبر سمير أمين أنّ ما جعل ايران تتحدّى النّظام الغربي ليس الايديولوجيا الإسلاميّة، بل فكرة الأمّة الايرانيّة وموقعها التاريخي ورفض من ينتمي اليها للتبعية غير المشروطة. «الأمّة» هنا لا نقصدها بمعنى البناء المعنوي، والأساطير والفخر القومي والعناد (فهذه متاحة للجميع)، بل بما هي مجتمع سياسي تكوّن تاريخياً وتجذّرت فيه مصالح وأنماط انتاج وهو يروم الحفاظ على نفسه. حين قامت «ثورة التبغ» عام 1890، لم يكن الاحتجاج لأسباب قوميّة مجرّدة، بل لأنّ حصر تسويق التبغ وانتاجه بالأجانب كان يعني تدمير صناعةٍ كاملة، ترتبط بها شبكات نقل وبيع وانتاج وعمّالٍ بمئات الآلاف، والطبقات التجارية في طهران وتبريز وأصفهان ومشهد قديمة وخبيرة وواعية لمصالحها، وهي لا تقبل بأن يذهب فائض القيمة، الذي تولّده هذه الصناعة الاستراتيجية، الى متموّلٍ اوروبي.
وحين حاول شاه القاجار، تحت ضغط الديون والإفلاس، أن يعطي شركات أجنبية احتكاراً لصناعات المعادن والنقل والتيليغراف وغيرها، قام عليه المجتمع ورجال الدّين والتّجار لأنهم فهموا أنّ مسار التنازل السياسي أمام القوى الغربية، إن استمرّ، فهو سيرسم لايران مستقبلاً ليس لهم مكانٌ فيه. وبالمثل، حين حاول محمد رضا بهلوي (مندفعاً بسوء تقديرٍ لسلطة الدولة وللاستقلالية التي تؤمنها له عوائد النفط عن المجتمع) أن يهيمن على الاقتصاد بعد أن هيمن على السياسة، وأن يضرب المؤسسة الدينية، أطاحته قطاعات شعبية عريضة لم تقبل بأن يقوم ابن ضابط القوزاق بتجريد «الأمّة» من سلطتها، ونقلها الى جهاز دولة ومجتمع ملحقٍ به لم يكن يمثّل ــــ بحسب ابراهاميان وغيره من الباحثين ــــ أكثر من 13 الى 17% من الشعب الايراني (أمّا في بلادنا، للمقارنة، فقد حصلت أمورٌ اسوأ بكثير ومرّت من دون اعتراض أو كتلة تاريخية تواجهه).

الرئيس والنظام

من هنا، فإنّ الثورة ونظامها مثّلا تكتّلاً معقّداً للمصالح الوطنية، ولم تكن الثورة يوماَ اشتراكية شعبية، مثلاً، وموقفها من الملكية الفردية ومن إدارة وسائل الانتاج ليس واضحاً وثابتاً، وهي أمورٌ ظلّت عرضةً للتفاوض والتجاذب طوال العقود الماضية، ولكن ــــ هنا ايضاً ــــ كان لـ»الأمة» دورٌ أساسيّ في تقرير الأمور.
النظام السياسي الايراني، بطبيعته، يفرز قواعد فريدة للّعبة السياسية في البلد. أوّلا، العلاقة بين المرشد وبين رئيس الجمهورية، إن شئنا تبسيطها، تشبه العلاقة بين الملك ورئيس وزرائه، أو بين الخليفة والسّلطان. الأوّل يمثّل الأمّة والثّاني يمثّل الحكومة؛ الأوّل يقرّر في الشؤون «الكبرى»، في ايران وخارجها، والثاني يتولّى تفاصيل الحكم خلال ولاية محدّدة. الأوّل رمزٌ «فوق» السياسة وانقساماتها، والثاني مجرّد شخصية سياسية، تعارضه وتكرهه وتصبّ جام غضبك عليه (ومن هنا، ربّما، كانت القسمة في أنّ يكون الخامنئي اماماً ورفسنجاني رئيساً للجمهورية).
ثانياً، الرئيس لا يملك سلطة مطلقة، وعليه مراعاة توازنات ومراكز قوى منتشرة في البيروقراطية والدولة و ــــ قبل أي شيء آخر ــــ عليه أن يضمن إعادة انتخابه، وهذا في ايران يعني (عموماً) شيئاً واحداً: أن تزيد تقديمات الدولة للشعب. الكلام عن الخصخصة في ايران، ولبرلة الاقتصاد وتعزيز القطاع الخاص، موجودٌ منذ أيّام رفسنجاني، ولكنّ الرئيس الأول بعد حرب العراق لم يتمكّن من تطبيق هذه الأمور، ولا خاتمي من بعده، وأحمدي نجاد عدّل، أخيراً، نظام دعم السلع بطريقته الخاصّة، وسلوك روحاني لم يختلف. بل إنّ الولي الفقيه قد أصدر، خلال التسعينيات، رأياً يدعم الخصخصة وتقليص القطاع العام، ويطلب من الحكومة السير فيه، حتّى لا يدفع الرئيس ثمن هذا الخيار وحده، ولم تجرِ الخصخصة، رغم ذلك، الّا على نطاقٍ محدود.
الدينامية الانتخابية في ايران، كما يشير العديد من الباحثين، عنت أنّ كلّ رئيسٍ ايراني، من دون استثناء وبغض النّظر عن شخصيته وآرائه، وما إن كان ليبرالياً تخصيصياً أو شعبوياً توزيعياً، عمل، بالمحصلة، على توزيع خدمات اجتماعية أكثر من سلفه. تكتب باحثة أميركيّة، هي على الأقلّ عاشت في ايران وتعرف البلد عن قرب، أنّ كلّ محيطها ورفاقها في شمال طهران كانوا أعداء ألدّاء لأحمدي نجاد، ويعتبرون عهده سلسلة من الفشل والهدر والخيارات الاقتصادية السيئة. مع ذلك، تقول، هم أنفسهم يعترفون بأنّ مستوى الحياة والاستهلاك والبنى التحتية في المدن، وخدمة الزبون بشكلٍ عام، قد ارتفعت بشكلٍ ملحوظٍ في عهده.

اقتصاد الراسمالية و»اقتصاد المقاومة»

كما يشير الكثير من المنظّرين الذين لا يحلّلون ايران وروسيا وغيرها من وجهة نظر المؤسسة الأميركيّة، فإنّ العلاقة بين اميركا وبين دولٍ كإيران وروسيا والصين ستظلّ، على الدّوام، تتراوح بين حدّين: امّا تطويع هذه الدّول، وذلك عبر وصول نخبٍ غرباويّة ودونيّة الى الحكم فيه، تقبل بدمج بلدها في النظام العالمي وفق شروط التبعيّة، وامّا ضربها بالقوّة وكسرها عبر الحرب. كتب الباحث الأميركي ماكس آيل اثر الاتّفاق النووي الايراني مقالاً طويلاً يفصّل فيه هذه النقطة، وأن العقوبات والاتّفاق النووي والحرب هي كلّها خياراتٌ تدور ضمن الاستراتيجية نفسها: امّا تحفيز «ثورة مضادّة» داخلياً في ايران، كما حصل في الاتحاد السوفياتي مع غورباتشوف، أو تحضير البلد لضربة عسكرية حين تلوح نافذة فرصة.
قد يسأل سائل: وكيف يمكن، أصلاً، لنظامٍ كالنظام الصيني أن يحوز استقلالاً نسبياً في ظلّ نظام «الهيمنة»؟ سمير أمين يقدّم اجابةً على هذا السؤال في تحليله للصين. هو يقول أنّه، بغض النظر عن الايديولوجيا الإسمية، فالصين ليست «شيوعية» أو اشتراكية اليوم، ولكنّها تحتفظ من تراثها السياسي بعاملين أساسيّين يفرّقانها عن بقية الأنظمة الرأسمالية. أوّلاً، ملكية الأرض الزراعية في الصين ما زالت للدولة، وللأفراد حقٌّ متساوٍ في استخدامها، ولكن لا يمكن تملّكها وبيعها، وتحويل العقار الى سلعةٍ للمضاربة والاحتكار وتكديس الثروة. ثانياً، وهذا أهمّ، النّظام المصرفي الصيني ليس حرّاً ولا يتبع قرارات المصارف والسّوق؛ بل هو تحت سيطرة الدّولة، والمؤسسات المالية أكثرها للقطاع العام، تنسّق في ما بينها وتحدّد ــــ بشكلٍ مركزيّ، وتحت سلطة الحزب ــــ قيمة العملة والفوائد واتّجاه الاستثمار، وأيّ قطاعات يجب تشجيعها ودعمها، وأيّ يجب حجز السيولة عنها. لهذا السبب، ما زالت الدولة الصينية تملك القدرة على توجيه التنمية، والتحكّم باقتصادها، ومنع العملة من أن تتحوّل، ايضاً، الى سلعة. لو خسرت الصّين هاتين الخاصيّتين، يقول أمين، وتمّ تحرير الأرض وتخصيص القطاع المصرفي، تكون «الخصوصية الصينية» قد انتهت، واكتمل اندماج البلد في النظام العالمي، بغض النظر عن هوية الحاكمين في بيجينغ؛ هذا معنى «الثورة المضادّة» في السياق الصيني، وما تبقّى من نتائج لا يكون تحقّقه الّا مسألة وقت.
في ايران ايضاً، توجد نقاطٌ مفصلية في الاقتصاد والسياسة، من النظام المصرفي الى التجمّعات الصناعيّة والأوقاف الدينية، تصنع الحدّ بين السيادة والعولمة، وهذه هي النقاط التي يجري حولها صراعٌ مستمرّ، والباحثون الغربيون قلّما ينتبهون اليها، أو يأخذون نظرية الخامنئي عن «اقتصاد المقاومة» على محمل الجدّ. فكرة «اقتصاد المقاومة»، التي تم تفصيلها في عدّة نقاط وتحويلها الى توجيهٍ أعلى للدولة، هي ــــ عملياً وباختصار ــــ تعبيرٌ عن أنّ النّظام يفهم مضمون اللعبة الدولية التي يقف في وسطها؛ وأنّ بناء الاقتصاد عبر التحضّر للحرب والعقوبات، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في العناصر الحيوية، وتأكيد سلطة الدولة على بنى مالية أساسية (وهذه كلّها تعاكس النظرية الاقتصادية الشائعة) تمثّل ضرورةً استراتيجية عليا، بغض النظر عن التكلفة وآراء الخبراء. لهذه الأسباب ايضاً، لا يجب اعتبار أنّ المستقبل محسومٌ في دولٍ كالصّين وايران وروسيا، أو أنّ مصيرها واحد بالضرورة أو أنّها (وتجمّع الـ»بريكس» مثلاً) ستكون حكماً في حلفٍ موضوعيّ واحد ضدّ الهيمنة. ولكنّ الطّريف في حالة ايران، كما ذكرنا في السابق، هو أنّ سياسات واشنطن تجاه البلد شكّلت عوناً لألدّ أعدائها فيه، ودمّرت ــــ بشكلٍ خاص ــــ الطبقة التي تراهن عليها أميركا في دول الجنوب لخوض «الثورة المضادة». بعد العقوبات وخطر التجويع، لم يعد صوتٌ يرتفع ليدعو لبناء اقتصاد رأسمالي «طبيعي» في ايران، مندمج بلا شروطٍ في المنظومة المعولمة. وفي داخل البلد، كانت الطّبقات «الكومبرادورية» تحديداً، تجار الاستيراد والمضاربين ورجال الأعمال الذين يعيشون بين طهران والغرب، هم أوّل ضحايا العقوبات وأكثر من دفع ثمنها، حتّى كاد الحصار الاقتصادي يبيدها.