جسور المشاة إنشاءات قصيرة النظر
من أقصر المشاريع نظراً في لبنان، وأقلها ذكاءً، ظاهرة جسور المشاة فوق الطرقات والأوتوسترادات. تفرح البلديات والمؤسسات الحكومية بإعطاء حق بناء تلك الجسور المتعملقة لشركات الإعلان والدعايات، ظناً منها أنها تقدم خدمة للمواطنين، وذلك مقابل استثمار الجسور من قبل الشركات في لوحات إعلانية ضخمة، فيما يظن المواطنون أنها ظاهرة حضارية تقيهم خطر الموت تحت عجلات الآليات. يرتفع بناؤها في الفضاء وتتعرَّجُ الأدراجُ إلى عُلُوٍّ يسمحُ بمرورِ أضخم الشاحنات تحتها، كما ترتفع السمسرات والعمولات والتنفيعات لتنفيذ أكثر تلك المشاريع.

وفي ظل هذه الارتجالية في العمل، يَبرُقُ في ذهننا سؤال مُرَكَّب، ربما هو أكبر من حجم تلك الجسور: من يا تُرى، يمكنه تسلُّق تلك الأبراج المُعَلَّقة؟ وهل هي الحل الأنجع لخدمة الناس من دون المس بجمالية المدينة والطبيعة؟
طبعاً لن يحمل جوابي سروراً للقلوب المُحِبَّة لتلك الجسور، لأن مروجي الفكرة وداعميها ومموليها ومُشَرِّعيها، علاوة على سماسرتها، لم يسألوا أنفسهم يوماً كيف يُمكن للعاجز والمريض والمُعاق، وللطفل والمرأة الحامل وتلك التي تجرُّ عربة طفلها، تسلق تلك الأدراج الشاهقة. وهذا الواقع لا ينم عن بُعدِ نظر في التخطيط عند القيمين على البلديات، والمتصدين للعمل العام، ولا عن أسلوب حضاري في إقرار المشاريع الإنمائية وتنفيذها، إنما يدل على عشوائية وارتجالية. فكلما قدحت في ذهن أحدهم فكرة، يظن فيها أنه اكتشف البارود، يبدأ بالتنفيذ مع ما يرافق ذلك من هدر وإلحاق أذىً بالبشر والشجر والطبيعة والقيم والتنظيم المدني المتهالك.
أما البديل الذي لم يكتشفه «عباقرة» العمل البلدي، والذي كان يمكنهم اكتشافه لو تفضلوا بالدراسة المعمقة لتجارب الآخرين، والمقارنة بين الخيارات المتعددة الموجودة عند أقوامٍ آخرين، فهي عبارة عن حفر نفق تحت الطريق، بدل إقامة جسر، يقطعها من جهة إلى أخرى، من دون أن يتطلب ارتفاعاً شاهقاً ولا أدراجاً عملاقة. ويتضمن هذا النفق درجاً سهل الاستعمال صعوداً ونزولاً، وممراً يحاذي الدرج لذوي الاحتياجات الخاصة وعربات الأطفال، وللمسنين والحوامل والمرضى، وحمامات للعموم تحل مشكلة عدم توفر تلك الخدمات للمارة في بلدنا كأبسط ما يمكن لبلدية أن تقدمه لشعبها الذي تراه يركض هائماً كلما احتاج مرحاضاً.
أما كلفة تلك الأنفاق، فهي على الأرجح أدنى من كلفة الجسور العملاقة. كما يمكن الاسفادة من شركات الإعلانات بالمساهمة في التمويل مقابل امتياز استثمارها للإعلانات لفترات معينة، بشكل أكثر جمالاً وأناقة على جوانب الطرقات وليس فوقها.
علي خيرالله شريف

■ ■ ■


إيلا طنّوس والطفولة المبتورة!

... وأنا أشاهدُ عبر التلفاز تقريراً عن الطفلة «إيلا طنّوس»، بلغَ بيَ الألم مداه، تماماً ككلّ من شاهده فأحسّ كأنّ «إيلا» منه، وتضامن مع قضيّتها مُستنكراً الجريمة التي بترَت أحلامَ طفولتِها...
حاولتُ مراراً أن أشيح بوجهي عن صورها التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، ثقيلاً بدا المشهد، تجمّدت عروقي وأنا أستسلمُ لصورها، ولدمعي... وقعت إيلا فريسة الطب اللا مسؤول، فمن ينقذها ممّا تغرق فيه؟ من سيخرجها من تداعيات خسارة ستحكمها مدى الحياة؟!
في عامهم الأوّل، يبدأ الأطفال بالمشي، إلاّ «إيلا»، لم يُكتَب لها أن تعيش ذلك، بمجرّد أن بلغت ربيعها الأوّل، بُتِرت أطرافها!
ستكبر إيلاّ يوماً... ستغار من رفيقاتها، من واحدةٍ تداعبُ شعرها، وأخرى تلهو بلعبة، تلامس أجزاءها... ستسأل يوماً: «كيف أفكّ ضفائري الذهبيّة»؟
ستغبطُ في سرّها كلّ من يملك جسداً متكاملاً، كلّ عاشقة تداعب وجنتيّ حبيبها، كلّ أمّ تحضن ابنها بين يديها، كلّ عازف يعانق كمانه مُمَرِّراً أنامله عليه... ستحزن حين سترى أترابها يرسمون، ستسأل حينها: «بماذا يشعرون وهم يختارون الألوان، يحضنون الرّيشة والأقلام؟».
كيف ستقمع إيلاّ رغبتها في أن تملك يدين ورجلين؟! كيف ستصارع غربتها عن المجتمع، عن عيونه المحدّقة إليها؟!
كم ستحلم بحقيبة تحملها على ظهرها عائدة من المدرسة، برجلَين ترتقي بهما الدّرج مسرعةً لترتمي في حضنِ أمّها وأبيها! ستكبر يوماً، وستعشق كما كلّ الفتيات، ستغلي بالأنوثة... فهل سيحبّها من تحبّ؟ وإذا أحبّها، فكيف ستعانقه؟! ستهتزّ كورقة بين ذراعيه، وستتسرّب من بين أحضانه، قد تسقط إذا لم يغمرها ويُحكِم عليها الغمرة! وإن هرمت، فكيف ستتّكئ على عصاها؟!
يرتجّ قلبي الآن... أحسّ وجعاً فيه وأنا أكتب عنكِ أيّتها الصّغيرة الجميلة.
أكتبُ ما أكتب يا إيلا، كُرمى لكِ، كُرمى لأطرافكِ المسكينة المبتورة... أكتب لأقول لكِ ما ستقرأينه يوماً: نحن معكِ، إلى جانبك، بُترت أطرافك نعم، لكنّنا سنقبّلكِ في عينيك الدّامعتين، على خدّيك المبلّلَين بالأنين، سنقبّلكِ فيما تبقّى منكِ! سنحميكِ من مجتمعٍ مريض، مبتور القيم والإنسانيّة... سيأتي يومٌ تكتشفين فيه مثلي أنّ عدداً هائلاً من الأطبّاء قد باعوا ضمائرهم، وصاروا عبيداً للمال، فتصحّرت إنسانيّتهم، وتيبّست فيهم الرّحمة! طبيبكِ يا إيلاّ... قد أقصى الضمير بعيداً حين استخفّ بحالتك. في كياني حقدٌ مُشتعِلٌ حياله، على القضاء أن يحقّق معه ويؤدّبه ويعاقبه، الكلام الفصل للقضاء العادل الحازم. وإن برّأه القضاء، ولم ينصف طفولتكِ، فعلى الدُنيا السّلام... ربُّ السماء أشدّ إنصافاً!
دانا تقي جَوهر