في أواخر التسعينيات، حين كانت العلوم السياسية الأميركية ما تزال منشغلة بالتنظير لمفهوم «الدولة»، ومنطقها وعملها وصفاتها، كان تيموثي ميتشل يتنقّل بين المؤتمرات ليشرح لزملائه أن «لا شيء اسمه الدولة»، مثيراً الاستغراب والاعتراض والتعجّب. بالنسبة الى ميتشل، فإنّ الإحالة الى الهيكل التنظيمي للحكم، بأشخاصه ومناصبهم الرسمية، واعتباره بنية مقفلة اسمها «الدولة»، لها عقلها وفعلها ومنطقها المستقل، ما هي الا حيلة خطابية تخلق مفهوماً وهمياً («الدولة») نعامله على انّه «غرض» موجود ومادي، ولكنه لا يشرح شيئاً عن العالم الحقيقي.
هل بالامكان فصل خيارات «الدولة» وقراراتها عن المصالح المالية الخاصة التي تسيّر البلد وتتحالف مع النظام، ويخدمها وتخدمه؟ هل يمكن الفصل بين ارادة الدولة وسياساتها، وبين الساحة الدولية والقوى العظمى؟ هل يمكن الكلام عن «اقتصاد وطني» تتحكم به الدولة في ظلّ نظام العولمة؟ يجيب ميتشل بـ «لا» على كلّ هذه الأسئلة، محاججاً بأنّ مفهوم «القوة»، الذي يشمل كل هذه المصالح، والذي يتداخل مع الدولة ولكنه ليس محصوراً بها، هو وسيلة أصلح لتحليل الحكم وبنيته.
من هذا المنطلق، فإن الانتخابات في الدول «الديمقراطية» المستقرّة قد تؤدي الى تغيير في شخصية الحاكم، ولكنها لا تعني تغييراً في «شبكة القوة» التي تستمرّ عبر العهود، بل إن الخيار الانتخابي في هذه الدول يكون غالباً بين أطقم مختلفة تتنافس لادارة وخدمة هذا «النظام الفعلي»، الذي لم تصنعه الانتخابات ولا تغيّره أوراق الاقتراع. بمرور الذكرى الأولى لـ «انتخاب» عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر، يجوز أن نطرح هذه الأسئلة في سياق تقييم الحكم الجديد. السيسي، في دوائر كثيرة، صار رمزاً لإجهاض التجربة الديمقراطية في مصر، وقمع وقتل الخصوم، وسوء ادارة البلد؛ ولكن، قبل أن نجزم بمسؤولية السيسي ونقيّم «حكمه»، هل هو فعلا يحكم مصر؟
النظام الاقتصادي المصري هو استمرار لنمط النخبة المهيمنة منذ أيام مبارك، وهي التي دعمت قرار اقصاء «الاخوان» وقمع المعارضين، واعادة الفئات الشعبية ــــ التي دخلت المجال السياسي مع الثورة ــــ الى الصمت والهامش. هي دولةٌ لا يمكن أن تستمرّ بلا مساعدة الحلفاء الخارجيين، ولو انقطع الدعم الخليجي لأشهر، لشلّت الدولة في مصر وتوقّفت عن دفع الرواتب وتقديم الخدمات. كما أن السياسة الخارجية تحاصرها محددات ، بدءاً بـ «كامب دايفيد»، ليس للسيسي الخروج عنها.
كيف، بالضبط، نقول إن السيسي حكم مصر وهو لا يملك أن يطرح اصلاحاً اقتصادياً أو تغييراً بنيوياً أو مبادرة خارجية؟ المشاريع «الفرعونية» التي يعلن عنها الرئيس المصري، كحفر قناة سويس جديدة وبناء عاصمة رديفة، لا تمثّل ــــ بأي مقياس ــــ «سياسة اقتصادية»، بل مبادرات اعلامية هي، فعلياً، بديل عن غياب الحاكمية والخطط، ومحاولة لصنع صورة «الرئيس ذي الرؤية».
منذ أيام، نشرت «نيويورك تايمز» تحقيقاً عن رجل الأعمال أحمد الزيات، الذي صار من كبار ملاكي الخيول في اميركا. أسرة الرجل تختصر، بثلاثة أجيال، اتجاهات النخبة المصرية عبر الزمن: كان جده، أحمد حسن الزيات، كاتباً وأديباً نهضوياً، فيما انتمى والده الى جيل «التكنوقراط» وأصحاب المهن الحرة، فكان الطبيب الشخصي للسادات؛ بينما درس الحفيد ــــ كأكثر اترابه ــــ التجارة والتسويق واستفاد من مرحلة الانفتاح، حيث اشترى مصنعاً حكومياً تمّ تخصيصه، ثم باعه بعد سنوات بمئات ملايين الدولارات، أمنت له الدخول الى عالم النخبة الأميركية.
هكذا، قد تكون مسيرة الزيات، لا السيسي، هي التلخيص الأوجز لماضي مصر القريب: كانت هناك بدايات لمشروع قومي في مصر، خصصه السادات ومبارك وذهبت ثماره الى بطانتهم، وهذا المال أصبح اليوم في اميركا، يُصرف على الخيول والرهانات.