لم تحمل حكومة الرئيس عمر كرامي الأولى (1990-1992) أي إمكان لتحسين الواقع الاقتصادي الموروث من حقبة انهيار سعر صرف الليرة خلال الحرب. وقد أدى ذلك الانهيار إلى تقلّص قدرة الدولة على الإنفاق إلى مستوى الصفر. جرى تطيير تلك الحكومة من خلال افتعال انهيار جديد لسعر صرف الليرة. وهو ما أتاح وصول الرئيس الحريري إلى الحكم. جرى بعد ذلك تثبيت سعر صرف الليرة. أتاح ذلك إزالة التضخم. يمكن اختصار مشاكل لبنان التي برزت بعد ذلك التاريخ وعكست حالة فشل ذريع في التنمية لا تفتأ تقتلع شعب لبنان من أرضه في أربع نقاط: المديونية الحكومية ودور أصحاب الريوع المالية وتحرير التبادل مع الخارج واعتماد نموذج «دولة الحد الأدنى».
المديونية

كانت حقبة ما بعد 1993 حقبة إنفاق عام بالاستدانة وارتفاع لسعر الصرف الفعلي الحقيقي وتحرير للتبادل مع الخارج وانهيار للاستثمار المنتج. أتاحت حكومات الرئيس الحريري المتعاقبة ضمان ثبات سعر صرف الليرة الاسمي من خلال العمل على تأمين سيل مستمر من التدفقات المالية الخارجية. وارتفع في الوقت عينه الإنفاق العام بشكل لم يسبق له مثيل بحجة تمويل إعادة الإعمار.
رتّبت سياسة الفوائد المرتفعة المدفوعة لتمويل الإنفاق العام نمواً سريعاً للمديونية العامة تحوّلت بعد ثلاث سنوات من وصول الرئيس الحريري إلى الحكم إلى مشكلة البلاد الأولى. أصبح توفير موارد لخدمة المديونية الحكومية الشغل الشاغل للحكومات المتعاقبة بعد ذلك التاريخ. اختصر هذا الأمر الأهداف الحكومية وصرف النظر عن إمكان أن تتولى الدولة تحقيق أهداف تنموية فعلية.

أصحاب الريوع المالية

أخفى تثبيت سعر صرف الليرة الاسمي تجاه الدولار تحسّناً لسعرها تجاه سلّة عملات الدول التي يتعامل معها لبنان بالإستيراد والتصدير. تعاون هذا الأمر مع ارتفاع الأسعار المحلية مقارنة بأسعار بقية العالم لجعل سعر الصرف الفعلي الحقيقي يتضاعف خلال عقد التسعينيات. عكس هذا الارتفاع تضاعف كلفة الاستثمار المحلي وتوقّف الاستثمار المنتج الذي يوفر عملاً لأبناء البلاد. كان الاستثمار في لبنان بغالبيته الساحقة غير منتج، ويحصل في قطاعين رئيسيين: التوظيف المالي في سندات الخزينة والتوظيف العقاري في منطقة سوليدير (زبيب، 2015).
رتّبت سياسة الفوائد المرتفعة المدفوعة لتمويل الإنفاق العام نمواً سريعاً للمديونية العامة

عكس تثبيت سعر الصرف الاسمي للعملة الأولوية المعطاة لمصالح أصحاب الريوع المالية، باعتبار أن ثبات هذا السعر هو ما يتيح للمصارف استقطاب المدّخرات الداخلية والخارجية. وعكس ارتفاع سعر الصرف الفعلي الحقيقي الموقف المعادي لمصالح المنتجين، لأنه يضرب تنافسية السلع الوطنية ويلغي أية رغبة لدى أصحاب المشاريع بتحقيق استثمارات منتجة. شهد العالم في ظل النيو-ليبرالية اكتساب أصحاب الريوع المالية الأولوية على المستوى العالمي. كان لبنان صورة طبق الأصل عن هذا الواقع الدولي.
عيّن كينز التناقض الجوهري داخل الرأسمالية بوصفه قائماً بين أصحاب الريوع المالية من جهة، وبين المنتجين، أصحاب مشاريع وقوى عاملة، من جهة أخرى. ميّز على الدوام بين الفائدة التي هي الدخل الذي يعوّل عليه أصحاب الريوع المالية، وبين الربح الذي يمثّل التعويض الذي يستحقه ويحصل عليه أصحاب المشاريع (سيكاريسيا ولافوا، 1989: 62). قال عن فئة أصحاب الريوع المالية إنها الوحيدة التي يمكن أن تزدهر وسط حالة من الانكماش الاقتصادي والكساد الطويل الأمد (المصدر نفسه: 55). بلغ به عدم الثقة بهذه الفئة أن اقترح «تأميم الاستثمار»، أي حلول الدولة محل القطاع الخاص في تحقيقه على نحو دائم (المصدر نفسه: 57). جعله إضراب المتموّلين عن الدخول في مشاريع استثمارية منتجة واكتفاؤهم بالمضاربات في أسواق البورصة لتحصيل الثروة، يصل إلى هذه النتيجة.
عكس واقع لبنان بعد الحرب ما قاله كينز عن فئة أصحاب الريوع المالية. تحقّق المصارف كل عام مداخيل هائلة من دون أن تسهم بأية صورة من الصور في بناء اقتصاد منتج. وهي تحتفل بذلك على الملأ، في حين يذهب شباب لبنان إلى المهاجر إلى غير رجعة. بل ولبنان بعد الحرب صورة طبق الأصل عن دولة السلطنة العثمانية حيث المديونية العامة كانت الدجاجة التي تبيض ذهباً للمقرضين الأجانب والمحليّين والعائق الأساس أمام تحقيق أي إنفاق تنموي. هجّر انعدام الاستثمار المنتج في لبنان ثلث القوى العاملة بفئاتها الشابة على وجه الخصوص، خلال أقل من عقدين.
تعاون مع انعدام الاستثمار المنتج تخلّي الدولة عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها لتسريع وتيرة هجرة الشباب. استطاعت أسعار البناء والشقق أن ترتفع خمس مرات خلال ست سنوات فقط (2007-2012)، في حين بقيت المداخيل على حالها (بيشون، 2012). لم يستثر ذلك ردات فعل من النخبة أو من الجمهور. وارتفعت أقساط المدارس بمعدل 50 % خلال خمس سنوات (2009-2013) من دون أن يثير الأمر أي احتجاج (الحاج، 2014). ليس ثمة ما يمكن أن يكون أكثر سوءاً وكارثية من حصيلة العقدين اللذين تليا «الطائف».

تحرير التبادل مع الخارج

كان البنك الدولي في تقاريره السنوية لأعوام 1981 و1987 و1993 أكثر المندفعين إلى إقناع بلدان العالم الثالث: 1) بالانفتاح على الخارج من خلال إزالة العوائق على الاستيراد والتصدير، 2) بإرساء نموذج «دولة الحد الأدنى».
كان النصف الثاني من التسعينيات ميدان محاولات حثيثة من المملكة السعودية للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. انعكس ذلك في سلسلة من الإجراءات لتحرير التبادل مع الخارج وخلق إطار تشريعي مناسب له. كان خفض الرسوم الجمركية على المستوردات أحد عناصر تحرير المبادلات مع الخارج. بزّ لبنان الجميع عام 2000 بإجراء خفض جذري للرسوم الجمركية على المستوردات. فاق ما قامت به حكومة الرئيس الحريري آنذاك، ما حصل في السعودية أو في أية دولة إقليمية أخرى، لجهة مدى واتساع إجراءات تحرير التبادل مع الخارج.
لم يستطع طرف مدني أو أهلي أن يناقش الحكومة في ما ذهبت إليه. اشتكى الصناعيون أنهم وُعِدوا بلقاء مع الحكومة في هذا الشأن لم يتحقّق. تبيّن في ما بعد أن المسؤول عن الحوار باسم الصناعيين كان قد تخلّى عن نشاطه كصناعي، وحصر عمله بنشاطه كتاجر. لم يطرح أحد من النواب مقاربة الحكومة هذه في تحرير التبادل على بساط البحث، ولم يناقش أي طرف أو تكتّل في البرلمان الحكومة في جدواها.
في قراءته لتجربة «استبدال الواردات»، أوضح هنري بريتون أن البلدان النامية كانت تنشئ رسوماً جمركية «غب الطلب». لم يكن الهدف من ذلك تأمين إيرادات للدولة بل كان الهدف تشجيع الاستثمار (بريتون، 1998: 912). أتاحت الاستراتيجية الحمائية تلك بناء اقتصادات منتجة وتحقيق معدلات نمو مرتفعة وبناء دول وطنية ذات شأن. فشلت هذه البلدان نفسها في تحقيق «تصنيعها المتأخر» لأنها لم تضع في رأس أولوياتها اكتساب المقدرة التكنولوجية وتصنيع الآلات والتجهيزات بمقدرتها الذاتية. اقترح بريتون أن توضع السياسة الجمركية في خدمة عملية اكتساب المقدرة التكنولوجية لدى المؤسسات الوطنية. اقترح اعتماد الرسوم الجمركية وسيلة لحماية المؤسسات الإنتاجية طيلة الفترة التي يقتضيها «التعلّم والتمرين والتجريب» من قبلها، بهدف استيعاب التقنيات المستوردة وإعادة إنتاجها بمقدرتها الذاتية (بريتون: 931).

«دولة الحد الأدنى»

شهدت حقبة ما بعد الحرب حالة تردٍّ مستمر ومن دون قرار للإدارة العامة اللبنانية. بات المطلوب منذ مطلع تلك الحقبة تحجيم دور الدولة وخفض حضورها باعتبار أنها مجرّد عبء على الاقتصاد الوطني. موّلت قروض البنك الدولي ومساعداته مشاريع كثيرة لإعادة تنظيم الإدارة بما يحد من كلفتها ويهمّش دورها. أفرغت برامجه لإصلاح الإدارة هذه الأخيرة من إمكاناتها البشرية وجعلت منها تجمّعاً للفاشلين. انتزعت منها مقدرتها على توجيه وقيادة مشروع التنمية.
لم يكن ممكناً على مدى حقبة ما بعد الحرب اعتماد نظام المباريات الوطنية لتكوين إدارة عامة جديدة فعّالة. أصبحت التعيينات في الإدارة تخضع لتدخلات سافرة وفاجرة في قبل المتنفّذين تحت شتى الحجج. لعب الفراغ الإداري دوراً رئيسياً في فشل الإدارة وعجزها عن أن تلعب دوراً إيجابياً في التنمية.
سفّه هنري بريتون هدف «دولة الحد الأدنى» الذي اعتمدته المؤسسات الدولية نموذجاً لإصلاح دول العالم الثالث. بيّن أن نجاح التنمية وتحقيق «التصنيع المتأخر» اقتضى أن تخضع الدولة بذاتها لسياق من «التعلّم والتمرين والتجريب» في معرض قيادتها لمشروع التنمية وتوجيهها له. كان التجريب وتقبّل المسؤولين احتمال الخطأ وتصحيحه والانطلاق من جديد، أهم أوجه عملية التعلّم والتمرين الحكومي (government learning) في التجربة الآسيوية (بريتون: 931).

خلاصة للبرنامج الإقتصادي

يمكن التعاطي مع المديونية بالإلغاء أو إعادة الجدولة، وخصوصاً بمنع تحوّل خدمة الدين العام عائقاً أمام تنكّب الدولة لمسؤولياتها التنموية. ويمكن التعاطي مع دور أصحاب الريوع المالية بإعادة تصويب العمل المصرفي لجهة وضع المصارف في خدمة العملية التنموية والاستثمار المنتج. ويمكن التعاطي مع عملية تحرير التبادل مع الخارج التي حصلت بالعودة عنها، واعتماد رسوم جمركية حيث ثمة قطاعات يمكن أن تنشأ إذا توفّرت حماية لها، وخصوصاً لتوفير دعم للمنشآت الصناعية المنخرطة في عملية اكتساب المقدرة التكنولوجية وإنتاج الآلات. ويمكن مواجهة نموذج «دولة الحد الأدنى»، بالتصدّي للفراغ الإداري من خلال تفعيل نظام المباريات الوطنية وتنسيب الأكثر كفاءة، وإعادة صوغ النصوص التشريعية بما يعطي الدولة القدرة على قيادة مشروع التنمية. يفترض ذلك إعادة تعريف هذا الأخير بأنه يهدف لبناء اقتصاد منتج يتمتّع بالقدرة على المنافسة في الأسواق الدولية.

* أستاذ جامعي


المراجع

Wed 10 Jun 2015 20:48
Brass Paul R., “Indian Secularism in Practice”, in Indian Journal of Secularism, Vol. 9, n. 1, Jan-Mar 2006, pp. 115-132.
Brass Paul R., “Language and National Identity in the Soviet Union and India,” in Motyl Alexander (ed.), Thinking Theoretically About Soviet Nationalities: History and Comparison in the Study of the USSR, New York: Columbia, 1992, pp. 99-126.
Brass Paul, «Ethnic Conflict in Multiethnic Societies: The Consociational Solution and its Critics», in P. Brass, Ethnicity and nationalism: theory and comparison, New Delhi, India: Sage Publications, 1991, pp. 333-348.
Bruton Henry, “A Reconsideration of Import Substitution”, in Journal of Economic Literature, Vol. 36, June 1998, pp. (903-936).
Cornell Svante, “Autonomy as a Source of Conflict: Caucasian Conflicts in Theoretical Perspective,” World Politics, January 2002.
Crow Ralph,“Religious Sectarianism in the Lebanese Political System”, The journal of Politics, Vol. 24, n. 3, Aug. 1963, pp. 489-520.
Hale Henry, “Divided We Stand: Institutional Sources of Ethnofederal State Survival and Collapse,” World Politics, January 2004.
Hinnebusch Raymond, “The Middle East in the world hierarchy: imperialism and resistance”, in: Journal of International Relations and Development, vol 14, n. 2, 2011, pp. 213 - 246.
Longva Anh Nga, “From the Dhimma to the Capitulations: Memory and Experience of Protection in Lebanon”, in Longva Anh Nga, Roald Anne Sofie, Religious Minorities in the Middle East: Domination, Self-Empowerment, Accommodation, Leiden: Brill, 2012.
Pichon Muriel, « Au Liban, le marché de l’immobilier se transforme-t-il au profit des acheteurs ? », L’Orient- Le Jour, 28 juillet, 2012.
Salibi Kamal, “The Maronite Experiment”, in M. Gervers, R. Bikhazi (eds.), Conversion and Continuity: Indigenous Christian Communities in Islamic Lands, Eight to Eighteenth Centuries, Toronto, 1990, pp. 423-433.
Seccareccia M., M. Lavoie, “Les idées révolutionnaires de Keynes en politique économique et le déclin du capitalisme rentier”, in Economie Appliquée, n. 1, 1989, pp. 47-69.

أحمد بيضون، «الدولة والمواطنة في لبنان: التاريخ، التشريع، الثقافة الوطنية»، منشور في «التقرير الوطني حول التنمية البشرية في لبنان»، 2007، 30 صفحة.
ألبر داغر (أ)، «التهيئة للحرب الأهلية (1975 ــ 1990)»، الأخبار، 6 و 8 / 5 / 2014.
ألبر داغر (أ)، «الدولة اللبنانية وفقاً لمفهوم دولة القانون الديمقراطية»، نشرت في ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 2012، 224 صفحة، ص. 19 – 30.
ألبر داغر (ب)، «لبنان كـ«ساحة حرب» دائمة»، الأخبار، 5 / 12/ 2012.
ألبر داغر (ب)، «الولايات المتحدة والمشرق العربي: بيان للاسـتنهاض القومي»، الأخبار، 13، 14، 18 /11 / 2014.
بسام الهاشم، «الإعلام والمواطنة وقضية التنشئة الإجتماعية»، مؤتمر كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية حول «الإعلام والمواطنة»، 26 / 3 / 2014، 43 صفحة.
فاتن الحاج، «المدارس رفعت أقساطها 50 % في 5 سنوات»، الأخبار، 20/ 10/ 2014.
فاديا كيوان، «كيف يمكن المأسسة أن ترسم مخارج للأزمة السياسية؟»، قضايا النهار، 20 / 1 / 2015.
كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، الطبعة الأولى، 1965؛ الطبعة الثالثة (بالفرنسية )، بيروت، دار نوفل، 1988، 349 صفحة .
محمد زبيب، «توزيع «إلهي» للثروة»، الأخبار، 30/ 3/ 2015.