يستمر النظام العالمي واضطرابه بالتغير ويتخذ أشكالاً وأنماط عدة والذي بدوره يعني تغيراً في أشكال الظلم والقهر أيضاً. في هذا العالم المضطرب، يزداد اتساع فجوة التمثيل السياسي، وتعاني الديمقراطية وأسسها من أزمة تلو الأخرى. وفي هذا العالم المهووس أمنياً، تستمر الصراعات بالنشوء وتظهر يومياً تكنولوجيات جديدة للقمع والاضطهاد. وبالتالي، تشعر الشعوب بأنها بعيدة كل البعد عن أنظمتهما السياسية وأروقة صنع القرار فيها ومجرد متلقين لسياسات في أغلب الأحيان لا تروق لهم. لكل هذا ثمة إجابة واحدة تتمثل بالمقاومة.
فاعلون كثر في هذا العالم يعملون بجد ومن دون كلل أو ملل من أجل إضفاء صبغة سلبية وقذرة على كلمة المقاومة ويحاججون بأن المقاومة تعمل ضد السلم العالمي والعدالة. بل إنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك بمحاولاتهم المستمرة لتجريم المقاومة. وعلى الرغم من أن مؤسسات دولية عدة كالأمم المتحدة ومؤسساتها مسؤولة عن إحقاق العدالة العالمية، إلّا أنها تفشل في صد ومجابهة التيارات التي تعمل على تجريم المقاومة كفعل إنساني نبيل. فالمقاومة هي الإجابة الأقصر والأكثر فعالية في ظروف الاحتلال والاستعمار والاضطهاد والسلطوية. في هذه الحالات، المقاومة يجب أن تكون القاعدة لا الاستثناء. وبالتالي، فالمؤسسات الدولية المنوط بها إحقاق السلم العالمي والعدالة يجب عليها أن تحتفي وتتبنى المقاومة كنهج حياة حتى دحر الظلم وتحقيق العدالة والمساواة.
كل المطروح أعلاه ينسجم انسجاماً مطلقاً مع قرارات الأمم المتحدة والتي تمنح الحق للشعوب الواقعة تحت الاضطهاد والاحتلال والاستعمار بتحرير أنفسها وتقرير مصيرها باستخدام كافة السبل المتاحة لها. والتجارب التاريخية في هذا الصدد تشير لنتيجة واحدة لا يلتبسها الغموض: في حالات القمع والاضطهاد والقهر، المقاومة الإبداعية تمثل الإجابة.
وبالتالي، فالفعل المقاوم هو فعل جوهري وأساسي من أجل ضمان التمثيل والوكالة السياسية والتمكين الحقيقي، ولضمان تمثيل الشعوب في صُلب أنظمتها السياسية ونضالاتها أيضاً. الفعل المقاوم أيضاً يعني فيما يعنيه أن احتمالية تحقيق سلام عادل ومستدام تزداد وإن لم تكن المعادلة بالخطية. ولكن المهم وبغض النظر عن الصفة التي تسبق كلمة المقاومة (أكانت مسلحة، أم عسكرية، أم شعبية، أم سلمية، أم غير عنفية) هو كيفية استنهاض فكر ونهج وفعل المقاومة كقيمة إنسانية نبيلة وأصيلة. فالبعض قد يجد المقاومة مرعبة ومخيفة، والبعض الآخر يحتفي دوماً بجمال المقاومة. وما بين هذين النقضين فالمؤكد أن المقاومة هي عملية تقدمية وجدية تتطلب الكثير من الاستماتة والتعليم والتضحيات.

الاضطهاد والقهر
يتخذان اليوم أشكالاً
مغايرة

المقاومة والاشتباك والمجابهة والتحدي والرفض وعدم التعاون مع المستعِر والخنوع له والوقوف بثبات وحزم خلف المبادئ والاستماتة كلها أفعال مقاومة لا يمكن أن تُصادر من فعل المُضطَهَدين. فهذه مبادئ غير قابلة للتفاوض ومن يحاول فعل ذلك فمن دون أدنى شك فهم يقفون في صف المحتل والمستعمِر ويساهمون في إدامة إنتاج الظلم والقهر.
ربما قد يحاجج البعض أن الملاحظات هذه هي بديهية، ولكن في حقيقة الأمر الواقع فإن الفاعلين في رسم النظام العالمي وبالأخص الحكومات الغربية تفشل فشلاً ذريعاً في الامتحان الحقيقي عندما يتعلق الأمر بحق المضطهَدين في مقاومة الاضطهاد. نعم، يختلف عالم اليوم عن العالم الكولونيالي، ولكن الاضطهاد والقهر يتخذ اليوم أشكالاً مغايرة وما يزال المستعمرون الجدد يمارسون سطوتهم وظلمهم. وبالتالي، فثمة متغيران ثابتان في هذه المعادلة. الأول يتمثل بغياب العدالة وتجذر إنكار الحقوق، والثاني يتمثل بتوسع أدوات وأشكال المقاومة الإبداعية والخلاقّة والتي تمكن الشعوب من مقاومة ومجابهة الظلم والاضطهاد. 
وفي الحديث عن المقاومة يظهر غاندي كأيقونة للنهج المقاوم خاصة في العالم الغربي. ولكن لو كان غاندي حياً اليوم لما رغب في الاحتفاء المصطنع والرمزي به، بل لأصّر على الاحتفاء به بالطريقة الصحيحة. وهذا الاحتفاء الصحيح يتمثل بعنونة جذور الظلم من أجل رفض إعادة إنتاج السلطوية القمعية والأنظمة الكولونيالية. فعالم اليوم مثلاً يحتفي «بإضرابات» غاندي عن الطعام وبصموده في السجون وبمقاطعته الفعالة للمستعمِر. ولكن عالم اليوم هذا يخون غاندي بترك الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية وعذاباتهم ليواجهوا مصيرهم، بل وينعتون الفلسطينيين والمتضامنين معهم والداعمين لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها «باللاسامية». وبالتالي، تقوم حكومات وجهات عدة بتجريم الأفعال المقاومة هذه تحت غطاء «الديمقراطية وسلطة القانون». هذا التوصيف لا ينطبق فقط على الحالة الفلسطينية بل ثمة العديد من الأمثلة من شتى أنحاء العالم.
وبالتالي، فالدرس المستفاد من هذه التجارب هو درس بسيط وواضح: العصيان المدني والمقاومة والاشتباك والمقاطعة كلها أشكال فعل مقاومة يجب أن تبقى قريبة من قلب وعقل الشعوب وتدفع وتوجه فعلهم. فالمقاومة هي أقصر الطرق لتحقيق العدالة لأنها تضع الكرامة الإنسانية في صُلب الفعل، وعندما تصبح الكرامة الإنسانية النقطة المرجعية لأي نضال فعندها تصبح تطلعات الجماهير وأصواتهم في مركز نظامهم السياسي ونضالهم. وعندما تكون الكرامة الإنسانية في صُلب أي فعل فالتفاوض مع المستعمِر يحظى بمذاق آخر، والسلام يحظى بمعنى مختلف. فصون الكرامة الإنسانية فعل جامع ووحدوي، والوحدة أساس جوهري لمقاومة فعّالة.
* مدير البرامج في «الشبكة:
شبكة السياسات الفلسطينية»