في الأيام الماضية اندلعت أعمال عنف في مجمّع جامعة كاليفورنيا في بيركلي. السبب كان محاولة الطلاب والناشطين منع قيام ندوة يحييها أحد رموز اليمين الجديد ميلو يانوبولس، اليميني الذي بات له ممثل قوي داخل إدارة ترامب، وهو ستيف بانون. أعمال العنف التي شملت تحطيم زجاج بعض المحالّ وإضرام النيران، أدت إلى النتيجة التي أرادها المحتجون، وهي إلغاء الندوة. لكن كيف يمكننا أن نقرأ مثل هذه الاحتجاجات؟ الإجابة بسيطة: هي تشير، أكثر من أي شيء، إلى العجز والضعف وغياب أي إطار رمزي للحركة المقاومة للمنظومة بشكل عام.
إذا كان هنالك دليل نظري على مستوى الضعف الذي وصلنا إليه في الجانب الآخر من المنظومة، فهو تعلقنا جميعاً بهذا الاسم «اليسار». ما الذي يشير إليه هذا الاسم؟ في داخله يمكنك أن تجمع كل ألوان الطيف، من آلان باديو والمقاتلين الماويين في غابات الهند، وحتى هيلاري كلينتون. ما يشير إليه الاسم، ليس وجود بديل نظري للمنظومة القائمة، بل تحديداً عدم وجود أي بديل. لقد قبلنا جميعاً بفكرة أن الفضاء النهائي «للعبة» هو بقاء كل شيء كما هو، من الشكل التراتبي لمنظومات العمل، إلى الملكية الفردية، إلى علاقات القوة «الضرورية» لضمان السيرورة الطبيعية للمجتمع، ونهاية بالمنظومة الرأسمالية التي لابد لها أن تنتج الفقر وعدم المساواة في أماكن مختلفة من العالم. العالم سيبقى كما هو، ومهمتنا نحن «اليساريين»، أن نضمن أن هذا العالم لن يؤذي «مشاعر» البشر، أنه سوف يعاملهم بإنسانية. مثل هذه الرؤية سيرقص لها أشخاص مثل باراك أوباما وهيلاري كلينتون طرباً، هي لا تعفيهم من أي مسؤولية فحسب، هي كذلك تحولهم إلى مناضلين، إلى رموز ننظر إليهم باحترام، خاصة عندما نواجَه بأشخاص كدونالد ترامب.
لذلك، إن النهاية الحزينة التي تنتظر المحتجين الشباب في بيركلي، وفي كل مكان آخر هي الآتية: سيتحول هؤلاء الشباب إلى مجرد مدافعين عن الحالة الراهنة. أكثر ما يزعج هذا النمط من المقاومة، هذا «اليسار»، في زيارة الرمز اليميني للجامعة، هي حقيقة أن ميلو سيقول أشياء لا تسمح المنظومة القائمة بقولها. تلك المنظومة الأخلاقية الليبرالية التي حولت النضال الأسود في الولايات المتحدة لنضال من أجل منع كلمة «نيغرو». هذا الدفاع المستميت عن المنظومة القائمة، الدفاع غير الواعي عنها، و في غياب أي أفق نظري، رمزي، مختلف جذرياً، سيأخذ بطبيعة الحال شكّل تفجر أعمال عنف بلا معنى.

سيتحول المحتجون
الشباب إلى مجرد مدافعين عن الحالة الراهنة


سلافوي جيجاك و فريدريك جيمسون أوضحا أكثر من غيرهما فكرة أن المنظومة الرأسمالية الليبرالية هي منظومة لا تسمح للأفراد بأي شيء سوى الانغماس في ذواتهم الخاصة: أنت في داخل هذه المنظومة «فرد» بالمعنى الحرفي للكلمة، عليك أن تعمل، وأن تتبع «أحلامك!» في صناعة سيرة ذاتية مشرفة، ومسيرة مهنية رائعة (تقرأ أيضاً، أن تفني حياتك في إنتاج القيمة التي يضيفها الرأسمالي إلى رصيده)، ثم عليك أن «تستمتع» بالحياة وأن تكون «سعيداً» (هذه تقرأ، عليك أن تنفق بقية حياتك وأنت تشتري المنتجات التي يجب أن يشتريها أحدهم حتى تستمر العجلة في الدوران). هذه القراءة المعروفة، منذ مدة طويلة، للمنظومة، لها وجه نهائي بالنسبة إلى الفضاء الرمزي الذي نعيش فيه: سيختفي هذا الفضاء. الأفراد الذين تبدأ حياتهم وتنتهي داخل ذواتهم (فرويد سيسمي هذه الذوات الإيغو) لن يكون لهم أي رؤية كبرى تفسر الحياة. ما سمّاه جاك لاكان الفضاء الرمزي Symbolic Order سيختفي، بمعنى أن الأفراد لن يأخذوه بجدية. العلاقات الرمزية التي كانت تؤخذ بجدية عندما كان الأفراد يدخلون، في لحظة نضجهم، داخل الفضاء الرمزي، كعلاقة الحب والصداقة، واحترام الآخرين، إلى أن نصل إلى معنى الحياة في الدفاع عن الوطن أو في خدمة الآخرين، كل ذلك سيأخذه الأفراد باعتباره جزءاً من «اللعبة». هنا يمكننا أن نعطي كلمة «الإيمان» معنى جديداً وأكثر مادية: هنالك فرق بين أن تعرف شيئاً وأن تؤمن به، كلنا يعرف أن الصداقة شيء عظيم، لكن ما لم تدخل هذه المعرفة في الفضاء الرمزي للإنسان، وتتحول إلى جزء من النظرة العامة للحياة، فإن هذه المعرفة لن تؤخذ بجدية. لذلك، بإمكان الإنسان أن يعرف أن الاحتباس الحراري حقيقة، دون أن «يؤمن» بذلك. أن يعرف بأن عليه أن يكون أخلاقياً، وأن هنالك مبادئ ومثلاً، لكن دون أن يأخذ هذه المعرفة بأدنى قدر من الجدية. بقي فقط أن نقول إن هذه الفردانية خارج الفضاء الرمزي، هي فردانية كاذبة، هي مجرد نرجسية، وبالتالي هي تخلق الفرد المفصول من المعنى، ولكنه في نفس الوقت خاضع تماماً للواقع الراهن: النرجسي لا يؤمن بأن هنالك معاني عليا، ولكنه لا يستطيع، مع ذلك (وبسبب ذلك)، أن يتحرر من سلطة الآخرين عليه. هو يعيش حياته كلها لإرضاء تلك النظرة من الخارج. لاحظ مثلاً كيف يجمع النرجسي بين احتقاره للآخرين ورغبته الشديدة في أخذ الاعتراف منهم في نفس الوقت.
هذا العالم، بعيداً عن أي منظومة رمزية تفسره، يصنع أفراداً تائهين. ما سماه فريدريك جيمسون «التنظيم الذهني» Cognitive Mapping هو شيء معدوم في هذا العالم. الأفراد داخل المنظومة الليبرالية هم أشخاص ليس لديهم أي فكرة عما يجري، كل تفسير شامل يترك باعتباره تفكيراً «أيديولوجياً»، ويبقى فقط أن تكون هنالك آراء مختلفة ومتغيرة باستمرار. حسب «شعور» الإنسان وحسب الظروف. كيف إذن يفسر الواقع الراهن بلا أي سرديات كبرى؟ يفسر باعتباره شيئاً «طبيعياً». الرأسمالية، والملكية الفردية، والتراتبية، وعلاقات القوة والقهر، وأفريقيا الفقيرة، والموتى في الحرب السورية و كل شيء، هي أشياء قد تكون سيئة، ولكنها في النهاية أمور طبيعية، ستحدث حتماً وحدوثها سببه «الطبيعة الإنسانية» لا أكثر من ذلك ولا أقل (إن لم تكن المنظومة العالمية الحالية طبيعية، فما الذي يفسر القناعة العامة باستحالة تغيرها إلى منظومة أخرى؟ اشتراكية أو حتى شيوعية مثلاً؟). على ماذا إذن تبنى الحركات الاحتجاجية؟ تبنى على الأحداث المتفرقة وفي شكل رد فعل آني وقصير. أما الصفة الأخرى التي تميّز هذه الاحتجاجات «اليسارية»، فهي العنف البدائي الذي يتفجر داخلها. الأفراد «الغاضبون» لا يعرفون فعلاً لماذا هم غاضبون، وليس لديهم متنفس رمزي لتحويل هذا الغضب إلى «مشروع»، لذلك ليس أمامهم إلا التعبير عن ذلك بعنف (تكررت مشاهد العنف البدائي في خلال احتجاجات باريس ولندن ونيو أورلينز وغيرها في السنوات الماضية). بقي فقط أن أقول إن هذ العنف الطفولي لا علاقة له بالعنف المفسر رمزياً الذي دعا إليه أشخاص كفرانز فانون. العنف الثوري عموماً هو عنف له مكان محدد في الفضاء الرمزي، بل هو نتيجة مباشرة لالتزام رمزي واضح، وهو عنف مشروع غالباً، بل ومطلوب أحياناً.
كل ذلك يقودنا إلى نقطة البداية. ما هو الجانب المشرق لدونالد ترامب؟ وإلى اليمين المتشدد عموماً؟ هنا علينا أن نفكر في إحدى أهم نقاط القوة التي يقف عليها النظام الليبرالي الحالي: احتكاره لفكرة الممكن. عندما اقترح دونالد ترامب بناء جدار بين المكسيك والولايات المتحدة، لم يعتمد الطرح المضاد على فكرة لا أخلاقية هذا المقترح، بل على فكرة استحالته. ركز الإعلام على مجموعة من القراءات الاقتصادية الدقيقة التي تقول بالاستحالة «العلمية؟» لمثل هذا المشروع. ما يقوم به اليمين المتشدد (من داعش وحتى ماري لوبين) هو تحدي كل مسلمات المنظومة وعادياتها، وإعطاؤنا أمثلة عملية على حقيقة أن المستحيل الليبرالي يمكن كسره بسهولة حال توافر إرادة لذلك (مهما كانت هذه الإرادة بليدة وبدائية)، هذا التحدي يجذب الناس العاديين إليهم ويمنحهم شعبية، هذا التحدي هو الجانب المشرق لهذه الحركات، الجانب الذي يجب علينا أن نتعلمه منهم. إن احتكار فكرة الممكن وغير الممكن، حقيقة أن ما هو ممكن أصبح يحدده الخبراء الاقتصاديون الذين تنتجهم المنظومة، ورفقاؤهم الإعلاميون الذين ينتجون الحدود الإيديولوجية لما هو ممكن وغير ممكن، هو الأساس الذي يجب كسره رمزياً: ما سيحول اليسار، من مجرد يسار إلى «شيء ما»، إلى «اسم» لشيء جديد فعلاً، هو «الإيمان» بأن التفكير في شيء خارج الحدود الحالية هو شيء ممكن، أن الممكن المطروح حالياً ليس ممكناً محايداً، ليس شيئاً طبيعياً، بل هو ممكن محدد بعلاقات القوة والمصالح التي تسيطر على المجتمع. انطلاقاً من رفض الحدود الحالية، يمكننا جميعاً أن نصنع فضاءً رمزياً آخر، في داخله يبدو المستحيل الحالي ممكناً، وهذا الفضاء سيجعل لتحركنا معنى حقيقياً. ولحياتنا معنى آخر، وسيحولنا إلى أفراد أحرار فعلاً. وبينما سنبني نحن الأحزاب الثورية وسنغير الواقع، سيحتل أشخاص كميلو يانوبولس مكانهم المناسب بوصفهم مجرد حثالة مضحكة، لا تستحق أن يلقي لها الثوريون بالاً. أنا أفضّل هذا النوع من العنف.
* كاتب سوداني