قال الفيلسوف ابن رشد يوماً: «ليس على الضعيف على مرّ الأزمان إلا حالتان إما أن يموت مذلولاً، وإمَّا أن يتمثل بأقوى منه فيكتسب صفاته، وبذلك يقوى فيسهل عليه النزاع مع الحياة».
وننطلق من هذه الفكرة لنقول بأن الإنسان بطبعه عاشقٌ وباحثٌ نهمٌ عن معنى قيميّ يُشعره بإنسانيته ويعيد له الثقة بنفسه بما يتيح له مواجهة النزاع القاسي مع الحياة وما تفرضه بكل أمانة وعزّة ككائن له حضوره القوي على الساحة الكونية، وليس مجرد كائن مستغرق بالأهواء والمظاهر فاقدٍ لأي إحساسٍ بالتجذّر والأصالة، كالبعض الذين يقتحمون عالم الدين أو السياسة أو الاجتماع، وتأتي بهم الظروف إلى مواقع معينة ويصبحون عبئاً على الإنسان والحياة عندما يتحكمون بالقرار والسلطة فيمارسون إذلال الناس وقهرهم.
ولعلّ من أقوى الطرق وأقصرها تناولاً للتعبير عن طموحات الإنسان في بحثه عن كرامة مهدورة هي القيم الدينية كتمظهرات تختزن جانباً قيمياً وأخلاقياً متجذراً ومفتوحاً على الوجود وما بعده، وبناءً عليه، فالذي يريد مقاربة حقائق الدين ومفاهيمه في الحياة لا يمكن أن يكون أنانياً وبدائياً في ذلك ولا يُحسن فنّ قراءة النص من قلب الظروف والمعطيات الحاضرة واقتناص اللحظة التي من خلالها يعيد ترتيب الواقع بكل ما يزخر، لأن المحرِّك الديني هو هذه القوة التي ترتكز إلى الإخلاص والإبداع اللذين لا بدّ منهما وتحسّس أهميتها في إعادة النظر بما نفكّر ونقول.
إذ نرى كثيراً من المنابر والأقلام تتفاجأ بسطحيتها الفاقدة لكل إخلاص وإبداع، فتتحوّل إلى سلبية قاتلة مع الوقت، حيث تعيق كل صوت حر وتشوِّش عليه من خلال استغلالها من قبل قوى تريد للواقع أن يظلّ محكوماً للعبتها السياسية والثقافية، فيما المطلوب إنسان منتصر بالدرجة الأولى على الذاتيات والأنانيات، كشكل من أشكال الإخلاص الأولي بانتظار العمل على استخلاف الواقع بما يحقِّق الكمال المنشود الذي يتغلب على قساوة الزمن، فلن تسامحنا الحقيقة الدينية المتمثلة بإلإرادة الإلهية في إيجاد كائن متكامل يسعى لإحداث التوازن في وظائفه وطاقاته التي تدفعه إلى الأمام في نحن حين نمارس عملياً الانشداد إلى الفهم السطحي والغرائزي للنص، وبدل أن يتحول إلى كتاب للوجود يؤسّس من خلاله الإنسان لمعارف تستوعب الإبداعات الفردية والجماعية، تحوّل إلى كتاب منغلق على ذاتياتنا الفردية وعصبياتنا المذهبية والطائفية والعائلية والحزبية، والأنكى يصيح البعض ليل نهار بوجوب مجابهة العصبية ومحاربة المذهبية وهو يتغذى عليهما، ويربي الناس على ذلك.
المشكلة الأساسية كامنة في عدم المعايشة الكافية والتمثل الصحيح للأخلاقيات الدينية والإنسانية الراقية، والتي تنعكس خيراً عاماً... لذا ترى التراجع المخيف الأخلاقي والروحي، حيث الأخلاق العملية مفقودة، ويظل التنظير سيد الموقف وهو من يدير اللعبة، فلا إنتاج ولا فعل إنسانياً عميقاً يعكس الحضور الإنساني المتجذّر الطامح للإبداع المتغلّب على منازعة الحياة للإنسان، فباتت سلوكياتنا خاضعة لردّ الفعل والضبابية في الرؤية والموقف والاهتزاز وعدم الثبات في الموقف وسرعة التقلّب والمزاجية المفرطة، وهو ما ساهم في خلق شخصية اجتماعية ودينية غير منضبطة ومتفلتة من عقال العقلنة في الإنتاج والخطاب، وبنظرة بسيطة نعثر على ضيق أفق اصطنعه البعض لإرضاء استسلامه لما هو قائم ومن خلاله استلب إرادة الناس واستفاد من همجية البعض لبناء عرشه المزعوم.

هل بات الجميع موغلين في مناسبات الأحداث التاريخية وظروفها؟!

ويكفينا لذلك من روح التعصب والاستنفار والاستفزاز لدى كثيرين في إثارتهم لمسائل خلافية وتاريخية عمرها قرون من الزمن ولم تعد تصلح مادة للسجال كمسألة أحقية الخلافة الإسلامية لمن؟ إذ لم يعد لها أية ثمرة عملية سوى شدّ العصب المذهبي للتشيّع أو التسنّن في دوائرهما الضيقة، فينطلق كل واحد إلى تبرير ما لديه، ويختزل ما عند الآخرين، حتى إنه لا يكلف نفسه النظر إلى ما لديهم في عنجهية متناهية متخلفة، فيرى المعرفة كلها والتاريخ كله من خلال نظرته المذهبية الرجعية، فكيف نريد فهم الماضي وبناء الحاضر والمستقبل بهكذا ذهنية مريضة كالبعض من المتطرفين الذين يستحضرون أرض الخلافة في زمنها الأول على أنها أرض الأحلام ولكن من قال ذلك؟!
لذلك نقول، إن المساهمة في خلق ذهنية منفتحة وصناعة إنسان لديه الدوافع والحوافز للإبداع عبر قراءة واعية متجذرة لما تعنيه المعرفة الدينية والإنسانية بوجه عام في تناغمها مع وتيرة الوجود، لا بد من المرور عندها من نقطة هامة هي قبول الآخر والاعتراف به، لا شطبه من كل النواحي وإعدامه معنوياً وجسدياً كما يحصل مع الفكر المتطرف الذي يعيث فساداً في الأرض.
كما ولا بد من التحلي بروح الإقدام والمسؤولية للتلاقي ونبذ كل أصوات التفرقة والفتنة، هذه الأصوات التي لطالما كانت ولا تزال تفرض أشكالاً من التقهقر في الروح الاجتماعية والدينية، وتتسبّب في إحداث نقمة عامة على دينٍ تقتله كل حين بحساباتها المعتوهة، فجاءت السياسة لتستفيد من كل هذا الجو الديني والفكري والفوضوي والصاخب لتعيد تشكيل المشهد كما تريد وتشتهي، فاليوم تتقاطع المصالح السياسية للدول الكبرى من أجل خلط الأمور، وتقسيم المقسَّم، وتكريس التفرقة مستعينةً بتضعضع ديني وروحي مستحكم في عالمنا العربي والإسلامي يتغذى على لغة مذهبية حبست نفسها في زنزانة التقوقع والذاتيات والأنانيات والخوف من كل إبداع يخرجها عن مألوف متخلف تربّت عليه.
وبدل أن تنتفض الطبقة التي تعتبر نفسها صمام أمان المجتمع والساهرة على غذائه وأمنه الروحي والمعرفي على ما يعتور بعض النخبة السياسية والدينية المستحكمة برقاب الناس، ترى كثيراً من رجالها من رجال دين ووعّاظ ومنظّرين ومن يدّعون الفكر والثقافة، يتغاضون على أخطاء هذه النخبة ويمررون أحياناً ما يصيبها من جهالة وهذا غاية الضعف والذل والنفاق الرخيص. والسؤال: لماذا لا يجري العمل على إيجاد مؤسسة مرجعية دينية منظّمة ومنضبطة تستفيد من خبراء اليوم في مجالات شتى لإعادة تصويب وترشيد القراءات للفتاوى والنصوص كما دعا لذلك الراحل العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، هذه المجالات التي تطال علماء الألسنيات والنفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد؟ أم أن بعض المراجع يعتبرون ذلك مساساً بشخصهم وفتاويهم، لذا يتخوفون من فكرة التفاعل الجدي مع بعضهم البعض ناهيك عن الآخرين؟! وهل بات الجميع، من خاصة وعامة، موغلين في مناسبات الأحداث التاريخية وظروفها؟! وبدل أن نبدع معاني إيجادية تستنطق القيم الدينية والإنسانية في تصورها للعالم وللمسائل الوجودية انطلقنا لتوظيف القراءات والنصوص في خدمة انفعالاتنا ومشاعرنا الملتهبة التي توهمنا بالتغلب الظرفي على قساوة الحياة، ولكنها ما تلبث أن تكشف عن أضرار بالغة في العقل الجمعي على المدى القريب والبعيد.
وأخيراً وليس آخراً، فإن أهمية المعنى المنتج تكمن في إحدى صورها الأساسية في مدى إخلاصها لبناء روح الجماعة الموحّدة في آمالها وطموحاتها، فلا تنافر ولا حزازات وأنانيات ولا حسابات ضيّقة ولا ولاءات للشخص والحزب والعائلة، بل ولاء للحقيقة المبدعة التي تخلق التوازن بين لحظات الإنسان ومحطات حياته في تصاعدية متكاملة لبناء الأمة الواحدة التي تحدث عنها القرآن الكريم بقوله (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) آل عمران: 104.
للأسف، حتى المعرفة الدينية النافعة التي تشحذ هممنا للإبداع أصبحت شبه مغيّبة ومرتهنة للامعنى، وأسيرة لخطابات فارغة لا تعبِّر عن قلق الشخصية الإيمانية المبدعة والخلاّقة التي تصنع القوة للأمة في مواجهتها لقساوة الحياة، فهل نحمل كتاب الوجود المفتوح على تقليد الأقوياء في نفوسهم العزيزة الخلاّقة لنكون قاهرين، أو نغلق عقولنا عنه ونعمي بصيرتنا وأبصارنا ونموت في حياتنا مقهورين مذلولين.
* كاتب لبناني