يحجزون كل الشاشات، ويملأون عالمنا بالتناقض والعبث والصراخ، إنها وظيفتهم المفضلة وعملهم الذي يتقنونه ويقومون به على أفضل وجه وعلى أتم شكل. إنهم مثقفو الليبرالية النفطية ومنظرو الإخوانية العثمانية، من منتظري قوافل المحررين الغرباء وتبعهم من الغوغاء المضللين، يتركون لنا سؤالاً كبيراً لتحري أسباب سلوكهم الشاذ والشائن:هل هذا إدمان تعاطٍ أم مصلحة مجزية أم ضرورة حماية أم نفاق مستمر أم طبيعة ذاتية أم خيانة أزلية من أجل تسلق سلطة؟!

بتنا نرى هذه الظاهرة ماثلة أمامنا، نميزها بأدق تفاصيلها، كشلال مترابط من الأعراض والعلامات الواسمة التي تجتمع في مريض واحد، فتشكل متلازمةً طبية تُعرف وتُسجل في العرف والتاريخ التشخيصي الطبي، وتدفع المصابين بها إلى مصيرهم المحتوم في الأحضان الآثمة.
إن الحروب الطويلة التي تركت آثارها الواضحة في المنطقة منذ بدء موجات ما دعي بـ«الربيع العربي» وثوراته الدموية وشعاراته المضللة قد جعلت الناس الخاضعين لهذه التأثيرات، يختلفون بردود أفعالهم تجاهها، ضمن طيف واسع من الردود المتباينة بين الصمود والدفاع عن المبادئ والقيم والقناعات، وبين الانسياق وراء تيارات الأحداث الجارية كالمستسلم لجريانها المتدفق، أو عبر رفضها تماماً، أو الهروب والانشقاق، أو المراقبة من على رأس التلة انتظاراً لمعرفة نتائج المواجهة المصيرية، خوفاً من تبعاتها الخطيرة (الواقعية منها أو المختلقة) للانضمام لاحقاً إلى جحافل المنتصرين، وتبني منطقهم ومنهجهم وشعاراتهم أياً تكن الجهة المنتصرة ومهما تكن أيديولوجيتهم ومنهجيتهم وشعارتهم، على أن الدفاع عن القيم والمبادئ يجبر الانسان على احترام معتنقيها والمدافعين عنها، وإن خانتهم الظروف وقصر عنهم الإدراك. غير أن بعض الأصناف شكلت تياراً طاغياً بصوت عالٍ وضجيج ناشز لا يتوقف، أصناف تنتقل من صف إلى آخر، ومن عقيدة إلى أخرى، بشكل يناقض تاريخها وعمرها النضالي وعقيدتها ومبادئها تبعاً لمتغيرات مصلحية ذرائعية، أو وفق منطق خوران الهمة وخفوت الإرادة، فيضطرون إلى تبرير مواقفهم بالأدلة الواهية والذرائع المتهافتة، بغية توفير مظلة لتخاذلهم وانسحابهم وهروبهم من معسكرهم القديم.

كيف ومن أين؟!
عندما قرر المصاب بهذا التناذر الخروج من ملهاة وطنه ومأساتها بالحروب الجارية، واستراح إلى حججه وأسبابه (الموضوعية منها والمختلقة)، وراح يبني على فرضيته التي سيؤكدها ويتداولها مع مَن حوله مراراً، ويراكم في داخله الأدلة القاطعة والبراهين التي تثبت له ــ قبل غيره ــ قراره، ويركن إلى اقتناع راسخ بأن «هذا البلد لم يعد لنا وأن الحياة صارت فيه مستحيلة وأنه لا بد من الرحيل»، بينما يبني مغترب قديم اقتناعاً آخر أكثر قطعية لديه: أن «العودة إلى الوطن عبث وأنه محتل بالأرواح الشريرة وأشباه البشر، وأنه محكوم بالخراب والشياطين»، وتبرّد الضمائرُ وتستكين إلى أحكامها وبراهينها التي تجمع كل يوم لتبلغ اليقين الذي لا يخالطه الشك مطلقاً، فيبدأ شلال لا يتوقف من الأعراض المتتابعة لمتلازمة التخلي على ألسنة وأفكار المصابين به:
ــ الانتقاص من كل القيم الثابتة والشعارات القديمة، والسخرية من المصطلحات المتداولة، واعتبار كل مفرداتها وكلماتها من ضمن لغة خشبية عافتها الأنفس ونسيها الزمن، فيعتمدون مصطلحات جديدة ومعاول إعلامية فعالة تستهزئ بكل الإرث القديم، فيحضر التساؤل الغبي عن معاني قيم كالمقاومة والتصدي والصمود ليصل إلى حقائق أخرى كالعدو الصهيوني وفلسطين.
ــ الإنكار والتشكيك المستمر بآلاف الضحايا والشهداء، وتاريخ من القتال والنضال، وإضعاف معاني القدوات والمثل العظيمة في القادة التاريخيين، والركون إلى مقولات شعبية زائفة ومعلومات روجها الإعلام النفطي بقيمه المعروفة، في حين يجلسون مبررين لأطراف مشبوهة ومحميات ودول لم تغادر الحضن الأميركي، وترتبط بعلاقات محرمة كسفاح القربى مع إسرائيل، يشككون بمن قدم آلاف الشهداء أجساداً ولحماً حياً ودماً شريفاً حاراً، ليدعموا وجهة نظر نفطية لم تقدم جسداً واحداً في تاريخ طويل، بل لم تقدم طلقة واحدة على طريق القضية.
ــ تبرير التبعية للدول وتشكيل التحالفات الوهمية والواهنة، والركون الى كذبات القرن الحالي وقيم العولمة من مثل، حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية، وانتظار المحررين الأغراب، والتدخل في سيادة الدول بذرائع إنسانية (فلسفة برنار هنري ليفي في الاحتلال تدمير الأوطان وتمزيقها).
يمكن اعتبار تلك التظاهرات كمنتج طبيعي للفوضى الفكرية الحالية ولضعف الأيديولوجيات وسقوطها، وهي ضرورة لسد الذرائع الواهية للخيارات المصلحية التي انجرّ لها الانتهازيون، ما أكثرهم وما أكثر نماذجهم في هذا الزمن الذي يموج بالتخلي والمصلحية وقيم العولمة المتوحشة والارتهان إلى ربهم الجديد، رب السوق المهيمن: «الدولار».
من هم؟!
منهم من هو موجود في بلده على وشك الرحيل، تنكّر لماضيه فقفز عليه، ينظر حوله فلا يرى إلا جحيم دانتي. فكيف لحرٍّ مثله أن يعيش في سجن الوطن الكبير في محنته المصيرية! ومنهم سياسي انتهازي نقل بندقيته من كتف إلى آخر، فوصل إلى درجة أنه فضّل امتهان وظيفة عامل تنظيفات في البلد الذي عاش عمره الاشتراكي، وعمر عائلته النضالي في الكفاح ضده! ومنهم كثرٌ وصلوا إلى البلاد الباردة البعيدة، واستقروا لطقسها المتجمد، وباتت تصلنا تساؤلاتهم العبقرية عن جدوى صمودنا فوق هذا الخراب، وعن معنى قيمنا ومبادئنا وشعاراتنا في الدفاع عن بلادنا المشرفة في وجوه الغزاة والظلاميين والتتار الجدد، وفيهم من أحب الكبسة فركن للوداعة والشعر النبطي، وأدمن تناول قهوة وكيله الخليجي، وراح ينضم إلى جوقة مفكري العرضة وفلاسفة الجنادرية، فبدأ يشكك بتاريخ بلده الأم وكأنه «فقع فريد» نما في صحراء العبقرية في بلاده القاحلة ذات تجلٍّ رباني نادر، ليطرح علينا اجترارات الرجعية والجاهلية وقيم القبلية وكأنها اكتشافات الحداثة والمعاصرة.
بعضهم ماركسيون نفعيون وانتهازيون وبقايا مفكرين مصلحيين، وإسلاميون من «الإخوان»، وبعضهم يسار عربي فاقد الصلاحية، بمنظريه ومفكريه وثواره القدامى المتقاعدين، الذين يمتهنون حالياً صفة منتحلة كمحللين ثقاة أفذاذ، يرصدون حركة التاريخ وتغيراته القادمة برغبة الرب الأميركي، ويرقصون كلاعبي سيرك سياسي على حبل دقيق معلق، يتأرجحون فوقه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين حسب رغبة البترودولار ومشيئته.

إلى أين؟!
هؤلاء يضخمون باستمرار حجم الكره والحقد في داخلهم للآخر المختلف مهما كان حجمه، وهم لا يزالون لتأكيد صوابية خيارهم يتبنون خطاباً متطرفاً مبنياً على تفاصيل استجداء التعاطف والمتاجرة بالدماء وفتح البازارات لها، ومن هؤلاء من بنى روايته على أمانيه ورغباته وأوهامه البعيدة عن الواقع، كونه تابع ما يجري من مآسٍ وكوارث عبر محطات اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي وشاشات العولمة النفطية، ولم يكلف نفسه التحقق في أرض الواقع، هناك كثر اعتمدوا في نظريتهم لتقفي الأحداث الجارية على «شيطنة الدولة» وكل من يواليها أو يدعمها، وهؤلاء لا يزالون يضيفون كل يوم تفصيلاً صغيراً من عذابات السوريين، ليقنعوا أنفسهم بأنهم لم يخطئوا باتخاذ قرارهم بالرحيل أو التشبث بالغربة والتخلي وبيع الجمل بما حمل، وكلما طال الغياب وبعدت الأيام وغابت العيون والجباه عن ثرى الوطن، كبر الملف وكثرت أوراقه. وكلما تضخمت أحقادهم وتعملق الغول في دواخلهم، وصلوا إلى نتيجة مؤكدة راسخة كالجبال الراسيات أن هذا البلد ليس لهم، وأن الناس فيها كلهم عبيد، وهم من قلةٍ اختاروا الحياة والحرية، ولن يعيشوا في سجن الوطن الكبير، لذا سيبقون متمترسين بقرارهم، وسيبررون كل خطوات التنازل الأخرى.
نعلم أن كل ذلك جزء من الإقناع الذاتي للفرد والمجموعة دفاعاً عن الخيارات، ولو كانت هذه الخيارات مشوبة ومخلوطة بالخطأ والتخلي والهروب والخيانة ونكران الجميل وقلة الوفاء.
أما بالنسبة إلى السنوات المقبلة الحاملة لكل العبث والتخبط السياسي والميداني، والمخاضات العسيرة التي وضع السوريون بلدهم الفريد، ولأن هؤلاء لا يزالون قلة، أصوات ضجيج بفاعلية محدودة، وأنويتهم البدائية واضحة ونواياهم ظاهرة، يجب توجيه الجهد لكشفهم وتعريتهم وسحقهم في المهد ليكون خروج سوريا من معمودية الحديد والنار والولادة المتجددة خروجاً مطهراً ومقدساً ومستداماً، وعلى كل من يندب أو يواصل النق كالضفادع، أو يذرف الدموع على الأطلال وبقايا البيوت، أو يصدر لنا طاقته السلبية ومشاعره المدمرة من وراء الحدود أن يتوقف، ولهم نقول: سيتجاوزكم الوقت، فهذي الأرض المكرمة وهذي البلاد المشرفة محكومة بالخير والعطاء وبالنجاة والتجدد والانتصار إلى يوم يبعثون مهما عبرت عليها رياح الأحقاد وغطاها دخان البارود. صوتكم لن يضيف شيئاً لأوركسترا الندب القائمة من نصف عقد، عله نشاز جديد ليس أكثر! دم جديد لصورة مطلوسة باللون الأحمر ودماء الأبرياء، توقفوا جميعاً وفكروا بمنهجية تفكيركم وعواقبها السابقة والمتوقعة ولتضعوا نقطة مختلفة، وابدأوا بسطر جديد.
* كاتب سوري